يعتبر المفكر المغربي الراحل الدكتور المهدي المنجرة، ضمن أولئك الذين كان لهم السبق في صياغة أهم التوقعات المتعلقة بالقرن الحادي والعشرين.

وحسب أحد المراكز الكبرى الدولية للتراجم، فإن المنجرة يُصَنَّف من بين الألفين شخصية التي طبعت القرن العشرين.  

والدكتور المهدي المنجرة كان مسؤولا بقطاع الثقافة والعلوم الاجتماعية والإنسانية باليونسكو، ويُعَدُّ من أبرز الباحثين في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وقد سطع اسمه على وجه الخصوص كباحث في المستقبليات، وهو صاحب عدة مؤلفات، من بينها: ’’الحرب الحضارية الأولى‘‘، و’’عولمة العولمة‘‘، و’’الإهانة‘‘…إلخ.  

وفي هذا المقال، سنحاول عرض بعض المقتطفات من كتابه ’’قيمة القيم‘‘، الذي صيغ على شكل مجموعة من الحوارات والمحاضرات التي أجراها المفكر الراحل، وذلك للتعرف على بعض آرائه الموجزة فيما يخص مجموعة من المواضيع المهمة والتي ما تزال تشغل حيزا كبيرا في النقاش العمومي: الديمقراطية، والأحزاب السياسية، والانتخابات، والتعليم، والتنمية.

آراء حول الديمقراطية ـ الأحزاب السياسية

’’المشكل ليس في عدد الأحزاب السياسية، لأن هذه الوضعية ليست وليدة الصدفة، ولكن في سياسة واضحة كانت تبحث دائما على تشتيث القوى السياسية بالبلاد لكي تستخدمهم (أو أغلبهم على الأقل) كدمى‘‘.

’’من ذا الذي لا يتمنى انتقالا سلميا ودونما مواجهة مع وضعية التخلف التي نعيش ونغوص فيها يوما بعد يوم؟ ومن ذا الذي لا يتطلع إلى نموذج في التنمية قادر على ردم الهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء، بين الشباب والشيوخ، وبين العامل والعاطل، بين الرجل والمرأة …هذه الآليات، لا يمكن أن تصاغ من لدن بيروقراطيين ((وطنيين)) أو خبراء دوليين. لكي ننجح، يجب اعتماد مسلسل ديموقراطي حقيقي مع تمثيل حقيقي وذي مصداقية لأولئك الذين نريد أن نمثلهم‘‘.

’’أنا شخصيا أحترم العديد من الشخصيات التي تناضل داخل الأحزاب السياسية. لم أنخرط يوما في حزب سياسي ولم أصوت يوما في استحقاق انتخابي أو استفتاء، لأن الظروف الموضوعية لم تكن متوفرة. المشكل مشكل مصداقية ونزاهة وتطابق القول مع الفعل. كم هي نسبة المغاربة الذين يظنون أن الأحزاب تمثلها أو لها القدرة على حل مشاكل البلاد؟ …‘‘

’’إن مفاهيم الديمقراطية والمشاركة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، تفرغ يوميا من محتواها بتحوّل ـ استراتيجي مخطط من طرف المنظمة الحقيقية لمراكز القرار ـ للدوائر ((التقليدية)) إلى الشركات الكبرى والمتعددة الجنسية، مرورا بالقطاع العسكري للقوات العظمى والشبكات الخفية التي تأخذ طابعا دوليا متزايدا. إن الأغلبية الساحقة من الناس والدول، لا يستطيعون خلق أو تسيير التقنيات التي تستجيب لحاجياتهم، ويعتمدون على نماذج الاستهلاك المستعملة من طرف الآخرين. …. إن ما قاله جوكس Alain Joxe فيما أسماه ((امبراطورية الفوضى))، يعد مناسبا جدا: ((دور السلطة العسكرية في إمبراطورية الفوضى، يكمن في تسهيل حرية مجرى التيار فوق كل مساحة العالم، وإرغام الشعوب على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للسوق))‘‘.

’’إن أردتم معرفة وضع الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية في مجتمع معيّن، يكفيكم ملاحظة العلاقة بين المسؤولين والفن والفنّانين. وإن أردتم اكتشاف خلل وسبب الشر، ابحثوا عن أولئك الذين يشجّعون الرداءة‘‘.

آراء حول التعليم ـ التنمية

’’دون الرجوع إلى مناهج التقييم للـ PNUD، علينا أن ندرك أننا نعيش في عصر أصبح فيه العلم ضروريا لتقدّم كل مجتمع. تقرير نادي روما سنة 1979 ((من المهد إلى اللحد))، المتعلق بتطور التربية في الدول العربية، يشرح دخول العالم في مجتمع جديد للمعرفة التي تستوجب الإبداع والمشاركة. لقد غابت المعرفة عن الميدان العام ومجال القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى لفترة طويلة.يمكن التجديد في سيرورة المجتمعات الحديثة، في اعتمادها المتزايد اللامادي عوض المادي. ومن الواضح أنه في السنوات القادمة، ستنخفض أهمية المواد الخام مقارنة مع الماضي؛ بينما يصبح الحصول على المعلومة أساسيا‘‘.

’’لم تستثمر الدول العربية بالكفاية في مجال التربية والعلوم والبحث العلمي. وهذه الاستثمارات تتطلب الوقت لتحقيق النتائج. إن منطق الأمد المتوسط والطويل، ناذرا ما حظي بالاهتمام الكافي. في أيامنا هذه، من المستحيل القيام بالبحث العلمي بسعر منخفض. يجب على الدولة أن يكون لها برنامج ساري المفعول، يسمح لجامعاتنا أن تتوفر على ميزانية مخصصة للبحث العلمي‘‘.

’’لقد طُبِعت الفترة الاستعمارية بمحاربة متواصلة للعلم والعلماء، وأعتقد أن الوضع ما زال قائما في العالم العربي. في بلادنا لا نشجّع الكفاءة ولا يوجد هناك مسؤولون أسوأ من أولئك الذين يجهلون درجة جهلهم. وعندنا فائض في العالم العربي، علينا أن نفهم أن الإنسان هو محور التطور والتخطيط والاستقلال الذاتي. إن التصورات والتحاليل، والمناهج والسياسات والاستراتيجيات لا معنى لها، إلا إذا جعلنا بينها علاقات مباشرة وفعالة من أجل سعادة ومستقبل الإنسان‘‘.

’’إننا نخشى ونحارب الكفاءات، وهذا الوضع يمثل أكبر مؤشر على حالة التّخلف؛ كما أننا لا نعبأ بتجديد معارفنا، في وقت يتضاغف فيه مجموع المعارف البشرية كل سبع سنوات، علما بأن 90% من هذه المعارف، تم الحصول عليها خلال الثلاثين سنة الماضية حسب ريتشارد نايت.كيف لنا أن نواجه انفجار المعرفة، الذي يتمثل في نشر 6.000.000 مقال في 65.000 مجلّة متخصصة في كل سنة، فضلا عن نشر 2500 كتاب جديد كل يوم؟‘‘

’’إن أولياء الأمر، يخشون تبعات تعميم حقيقي للتربية. إذا كان مضمون هذه التربية يتطور حسب حاجيات إعادة توزيع عادل للثروات، فهذا سيؤدي إلى إعادة النظر في مناصب النخبة، مما يبرر تلك الحجة التي تتكرر على مسامعنا لصالح الانتقاء؛ وهي حجة في نظري ليست فقط مزيفة، لكن غير صادقة. يقال لنا ((منذ بضعة سنين، ومع عدد حاملي الباكالوريا الحالي، بإمكاننا قبول هذا العدد بالجامعة. اليوم، لا يمكن للجامعة أن تستقبل هذا العدد. نحن مجبرون على تصفية وتوجيه الطلبة للحد من الولوج إلى الجامعة بواسطة مباريات أو ما شابه ذلك…)) في الواقع، إن الأشخاص الذين يتقلدون المناصب الحساسة العليا يعلمون أن عدد المناصب الحكومية محدودا. ويعلمون خصوصا، أن إعادة توزيعهم، سيجعل البنية الاجتماعية برمتها محط تساؤل، وأن الشيء الوحيد القادر على زعزعة البناء الاجتماعي والاقتصادي الحالي، على المستوى الوطني والدولي هو التربية. تخيّلوا التغيير الكوني الفعلي، لو كان اليوم لـ 3900 مليون أو المليار من الأميين في العالم الثالث في مستوى البكالوريا أو الإجازة؟‘‘.

’’إن المعرفة والبحث والعلم والتكنولوجيا والكفاءة والابتكار والمجازفة والرؤية والحلم، هي مفاتيح التنمية التي لا تبحث عن الاستثمارات، بل هي التي تلهث وراءها. أين نحن من كل هذا؟ نهاية القرن التاسع عشر على أحسن تقدير. أنا متفق معك على ضرورة إيلاء الأولوية للموارد البشرية، لأنها هي الرأسمال الثمين؛ هذا الذي نضيعه، لأننا لا نملك الكفاءة لتسيير الكفاءات. ما العمل؟ يجب البدء بالاعتراف بأن ((نموذجنا في التنمية، هذا المفروض من لدن المساعدات الخارجية والبنك الدولي، قد فشل. ثم يجب التفكير في إقامة نموذج آخر بطريقة ديمقراطية، ويتطلب ذلك حدا أدنى من التشاركية ومن العدالة الاجتماعية‘‘.

’’إذا كان لي أن أكشف عن أخطر تهديد للجامعة اليوم، خاصّة في العالم الثالث، سأقول: هو عدم احترام ((الحق في البحث عن المعرفة من أجل المعرفة ومتابعة البحث أينما أدّى))‘‘.

’’لقد ناضلت طويلا، في إطار اليونسكو ومؤسسات أخرى، من أجل فكرة التكامل بين الاجتماعي والاقتصادي في تنمية المجتمع. وأدركت أن هذا التكامل لن يكون فعّالا إلا إذا تُوج بتشجيع الثقافة. في الواقع، إن الثقافة هي مفتاح التتنمية في جميع المجتمعات، كما صرّح بها René Mahen (مدير عام لليونسكو في فترة ما بين 1961 و1974): ((إن التنمية هي عندما يصبح العلم ثقافة))‘‘.

’’هل لنا في برامجنا التعليمية تخطيطا دقيقا مناسبا لبداغوجيا الجمالية؟ هنا يكمن تخلفنا ! ويظهر التناقض؛ لأنه في الوقت الذي نعيش فيه تخلفنا، سواء على المستوى الاجتماعي أو على مستوى السياسات الحكومية، نلاحظ أنه رغم كل هذا، نتوفر على مبدعين من درجة عالية ومعترف بهم على الصعيد الدولي. لكنني أخشى هجرة هؤلاء المبدعين، إن هم لم يجدوا الأجواء المناسبة كنظرائهم المهندسين والكفاءات الأخرى. وسوف يشكل هذا خسارة كبيرة لبلدنا.‘‘

10ـ ’’لنستحسن النموذج الياباني، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، لكن على الفني أيضا. يجب اعتبار المسألة التالية: عندما نتحدث عن الفنون التشكيلية، نتحدّث عن محيط، تكون فيه الظروف الملائمة للخلق والإبداع مجتمعة سواء في مجال الرسم والنحت والموسيقى أو الشعر …؛ بصفة عامة، فإن النتيجة تظهر بسرعة‘‘.

11ـ ’’أقارن بين الطلبة الذين درسوا قبل 4 أو 5 سنوات بالسلك الثالث، من حيث مستواهم اللغوي، سواء في اللغة العربية أو الفرنسية، وبين هؤلاء الذين يدرسون به اليوم، فأجد أنهم لم يصلوا حتى لمستوى السلك الثاني من الثانوي. فمن أين أتى هذا التخريب؟ من الأساتذة؟ من الطلبة؟ من الجو؟هذا تخريب مقصود، وأنا يمكن أن أسمح لأي أحد أن يخرب السياسة الصناعية، أو السياسة التجارية، أو حتى السياسة الاقتصادية كلها، لأن هذه أشياء يمكن إصلاحها في وقت قريب؛ لكن تخريب النظام التربوي التعليمي هي مسألة أجيال. يجب أن تنتظر على الأقل 30 سنة قبل أن تستعيد الإصلاح كما كان؛ وهذه أكبر أزمة في البلاد‘‘. 

الحل هو الديمقراطية

’’أظن أن الحل بسيط، وهو الديمقراطية الحقيقية، وحرية التعبير، والاهتمام بالتنمية التي تعم البلاد كلها، وليس التنمية التي تخص بعض الأوساط التي تغتني يوما بعد يوم. يجب أن يوضع حد لتفقير المغرب. أما قضية الاستثمارات التي يُتحدّث عنها، فهي أساطير؛ إذ ليس هناك أي استثمار، باستثناء الاستثمار الحقيقي الذي يتم بإمكانيات ذاتية وباتفاق مع الرأي العام المحلي، وبديمقراطية حقيقية‘‘.

(الفهرس)

X