الفهرس

أبو علي أحمد بن محمد مسكويه (932/1030م)

هل تظهر الفضيلة في الزهد وترْك مخالطة الناس أم في مساكنتهم؟

تحدث ابن مسكويه في كتابه ” تهذيب الأخلاق ‘‘ حول هذا الموضوع قائلا:        

’’إنا قد بينا فيما تقدم أن الإنسان من بين جميع الحيوان لا يكتفي بنفسه في تكميل ذاته. و لابد من معاونة قوم كثيري العدد حتى يتمم به حياته طيبة و يجري أمره على السداد. و لهذا قال الحكماء إن الإنسان مدني بالطبع، أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية، فكل بالطبع و بالضرورة يحتاج إلى غيره، فهو لذلك مضطر إلى مصافاة الناس و معاشرتهم العشرة الجميلة و محبتهم المحبة الصادقة لأنهم يكملون ذاته و يتممون إنسانيته و هو أيضا يفعل بهم مثل ذلك.     

فإذا كان كذلك بالطبع و بالضرورة فكيف يؤثر الإنسان العاقل العارف بنفسه التفرد و التخلي و لا يتعاطى ما يرى الفضيلة في غيره ؟ فإذا القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد و ترك مخالطة الناس و تفردوا عنهم إما بملازمة المغارات في الجبال و إما ببناء الصوامع في المفاوز و إما بالسياحة في البلدان لا يحصل لهم شيء من الفضائل التي عددناها. ذلك أن من لم يخالط الناس و لم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة و لا النجدة و لا السخاء و لا العدالة بل تصير قواه و ملكاته التي ركبت فيه باطلة لأنها لا تتوجه لا إلى خير و لا إلى شر، فإذا بطلت و لم تظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات و الموتى من الناس، و لذلك يظنون و يظن بهم أنهم أعفاء و ليسوا بأعفاء، و أنهم عدول و ليسوا بعدول، و كذلك في سائر الفضائل، أعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي شرور، ظن بهم الناس أنهم أفاضل.     

و ليست الفضائل أعداما، بل هي أفعال و أعمال تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم و في المعاملات و ضروب الاجتماعات. و نحن إنما نعلم و نتعلم الفضائل الإنسانية التي نساكن بها الناس و نخالطهم و نصبر على أذاهم لنصل منها و بها إلى سعادات أخرى إذا صرنا إلى حال أخرى ‘‘.

أبو علي أحمد بن محمد مسكويه ـ تهذيب الأخلاق ـ دار الكتب العلمية، بيروت، ص. 40ـ

X