وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية

من النصوص التي لا ينال منها الزمن، ولا تموت قيمتها العلمية، هذا المقال الاقتصادي لابن خلدون المأخوذ من ’’المقدمة‘‘ والذي تكمن أهميته وأصالته في قيام أفكاره على أساس البيئة والثقافة الخاصة للكاتب

 

عبد الرحمن بن خلدون (1332م/1406م)

الفصل الأول من الباب الخامس من ’’المقدمة‘‘

 

   يقول أحمد أمين في كتابه ’’يوم الإسلام‘‘: ((وقد نسبوا إلى روجير بيكون أنه أول من قال بالاستقراء في النهضة الأوروبية الحديثة مع أنه خريج الجامعات العربية في إسبانيا. وعَيْب العرب أنهم لم يجدوا من يُمَجّدهم. ومزيّة الأوروبيين أنهم يجدون دائما من يعلي شأنهم. وهكذا الشأن في ابن خلدون، فإنه سبق ديكارت في تأسيس علم الاجتماع، والفرق بين الاثنين أنه أيضا بنى كتابه على مذهب الاستقراء الذي سار عليه العرب أكثر مما سار على مذهب الاستنتاج الذي سار عليه الأوروبيون)).

   والحقيقة أن ابن خلدون أقام دراسته في ((المقدمة)) على أساس تداخل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، واستطاع الوصول إلى استنتاجات عامة من خلال تتبع الظاهرة واستقرائها في معظم ما توصّل إليه.

   وفي المقال الذي أمامنا المأخوذ من ((المقدمة))، والذي له ارتباطات  بمقالات أخرى من نفس المصدر، نلاحظ كيف أن ابن خلدون قد تطرّق إلى أفكار ونظريات اقتصادية اعتقد الكثيرون أنه لم يُكْشف عنها إلا بعد القرن الثامن عشر.

   فابن خلدون تعرض قبل غيره إلى مفهوم ’’العمل‘‘ البشري كقيمة مضافة تدخل ضمن قيم الخيرات، واعتبر أن السعي أو العمل قد يكون في مجال الصناعة أو في المواد الخامة القابلة للتحويل، وجميعها يتطلب عمل الإنسان.

ولجأ ابن خلدون إلى تقسيم الخيرات (Les biens) أو ما سماه بـ ’’المكاسب‘‘ إلى قسمين، وذلك قبل أن يقسّمها النمساوي كارل مانجر بقرون، فميّز بين المكاسب المتمثلة في الصنائع والمكاسب التي تحصل بدون سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله.

   ومن خلال المقال، نستشف أن ابن خلدون يقسم النشاط الاقتصادي إلى ثلاثة أقسام: الفلاحة، والصناعة، والتجارة. وأنه يجعل من معدني الذهب والفضة وسيلتين لقياس القيم، ووسيلتين للادخار باعتبارهما مستودعا للقيم.

   ويربط ابن خلدون في هذا المقال بين السكان والاقتصاد (نظرية السكان) معتبرا أن انتقاص العمران يُذهب الكسب وأن  الأمصار التي يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالا وأشد رفاهية.

   فهذه إذن بعض أفكار ابن خلدون في مقالته التي نعرضها، وقد تطرق إليها في مواضع أخرى من مقدمته شرحا وتفسيرا، لكن أصالة ابن خلدون تكمن في بناء تلك الأفكار انطلاقا من بيئته وثقافته، فهو عندما يتحدث عن الاحتياجات الاقتصادية اللا محدودة للإنسان فإنه يربط الكلام بنظرية ’’الاستخلاف في الأرض‘‘ والغاية من وجود الإنسان فيها. وعندما يتحدث عن الموارد والنفقات، فإنه يلجأ إلى استعمال كلمتي ’’المكسب‘‘ و ’’الرزق‘‘ من منطلق فقهي شديد الصلة بالثقافة الإسلامية السائدة، وهكذا… ولو استبدلنا تعابير ابن خلدون بالتعابير الاقتصادية المتداولة في وقتنا الحاضر، لوجدنا أنفسنا أمام مقال اقتصادي حديث وعميق. لكن تعبير ابن خلدون يظل عندنا أحسن وأنسب لأنه ابن بيئته .. غاية الأمر، أننا اعتدنا استيراد كل شيء، ولو أننا بنينا على ما ورثناه وجدّدنا على أساسه لكان ذلك أوْضحُ لنا وأنفع.

  

نص المقال

 

   ((اعلَمْ أنَّ الإنسان مفتقِرٌ بالطبع إلى ما يقوتُهُ ويموِّنه، في حالاته وأطواره، من لدن نشوئه إلى أشُدّه  إلى كِبره. ﴿واللهُ الغَنِيُّ وأنتم الفُقراء﴾. والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتَنَّ به عليه في غير ما آيةٍ من كتابه فقال تعالى: ﴿وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه﴾ وسخّر لكم الشمس والقمر وسخّر لكم البحر وسخّر لكم الفلك وسخّر لكم الأنعام. وكثيرٌ من شواهده. ويد الإنسان مبسوطةٌ على العالم وما فيه، بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرةٌ، فهي مشترِكةٌ في ذلك. وما حصلَ عليه يدُ هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسانُ متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف، سعى في اقتناء المكاسب، لينفق ما آتاه الله منها، في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: ﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾.

   وقد يحصل له ذلك بغير سعي، كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله. إلا أنها إنما تكون معينة، ولا بدّ من سعيه كما يأتي، فتكون له تلك المكاسبُ معاشا إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة، ورياشاً ومتَمَوَّلاً إن زادت على ذلك. ثم إن ذلك الحاصلَ أو المقتنى، إن عادت منفعته على العبد، وحصلت له ثمرته، من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سُمّي ذلك رزقا، والمتملَّك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسبا. وهذا مثل التراث، فإنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسبا ولا يسمى رزقا، إذ لم يحصل له به منتفع، وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقا. هذا حقيقة مسمَّى الرزق عند أهل السنة. وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقا أن يكون بحيث يصحُّ تملُّكه، وما لا يُتَمَلَّكُ عندهم فلا يُسمَّى رزقا. وأخرجوا الغصوبات والحرامَ كلَّه عن أن يسمَّى شيءٌ منها رزقاً. والله تعالى يرزقُ الغاصِب والظالمَ والمؤمِنَ والكافرَ، ويختصُّ برحمته وهدايته من يشاء. ولهم في ذلك حججٌ ليس هذا موضع بسطها.

   ثمّ اعلمْ أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل، فلابد في الرزق من سعْيٍ وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: ﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾. والسعي إليه إنما يكون بإقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله. فلا بدَّ من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتموَّل. لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهرٌ، وإن كان مُقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بُدَّ فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع.

   ثم إن اللهَ تعالى خلق الحجرين المعدنيَّيْن من الذهب والفضّة قيمة لكل متموّل، وهما الذخيرة والقنيةُ لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق، التي هنا عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة. وإذا تقَرّر هذا كلُّه فاعلمْ أن ما يفيدُهُ الإنسانُ ويقتنيه من المتموَّلات، إن كان من الصنائع فالمفادُ المقتنى منه هو قيمة عمله، وهو القصْدُ بالقِنيَةِ، إذ ليس هنالك إلا العملُ وليس بمقصود بنفسه للقِنْيَة. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرُها، مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمتُه أكثر. وإن كان من غير الصنائع، فلا بُدَّ في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتُها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرةً في الكثير منها فتُجعَلُ له حِصّةٌ من القيمة عَظُمَت أو صَغُرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها مُلاحَظ في أسعار الحبوب كما قدّمْناه، لكنه خفيٌّ في الأقطار التي علاج الفَلح فيها ومؤونته يسيرة، فلا يشعر بها إلا القليل من أهل الفلح. فقد تبيّن أن المفادات والمكتسبات كلَّها أو أكثرها إنما هي قِيَمُ الأعمال الإنسانيّة، وتبين مسمَّى الرزق، وأنه المنتفَع به. فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسمّاهُما.

   واعلم أنه إذا فُقدت الأعمال، أو قلّت بانتقاص العمران، تأذَّن اللهُ برفع الكسب. ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن، كيف يقلُّ الرزق والكسب فيها، أو يُفقد، لقلة الأعمال الإنسانية. وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر، يكون أهلها أوسع أحوالا وأشد رفاهية كما قدمناه قبلُ. ومن هذا الباب تقول العامّة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقُها، حتى إن الأنهار والعيون ينقطع جريُها في القفر، لما أن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني، كالحال في ضروع الأنعام، فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة، كما يجفّ الضّرْع إذا تُرك امتراؤه. وانْظُره في البلاد التي تُعهَد فيها العيونُ لأيام عمرانها ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن. ﴿واللهُ يقدِّر الليلَ والنّهارَ﴾ )).

(تقديم: سعيد منصفي التمسماني)

X