الفهرس

عبد الرحمن الكواكبي (1855م/1902م) في كتابه “طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد” الصادر منذ ما يزيد عن مائة و عشرين سنة، عرّف عبد الرحمن الكواكبي الاستبداد قائلا: 

   ’’الاستبداد لغة، هو غرور المرء برأيه و الأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة.    

   ويراد بالاستبداد، عند إطلاقه، استبداد الحكومات خاصة، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. و أما تحكُّم النفس على العقل، وتحكُّم الأب والأستاذ والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الإضافة.    

   الاستبداد، في اصطلاح السياسيين، هو تصرُّف فرد أو جمع في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوف تبعة، وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى الاصطلاحي فيستعملون في مقام كلمة “استبداد” كلمات: استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم، و في مقابلتها كلمات: مساواة، وحس مشترك، وتكافؤ، وسلطة عامة ويستعملون في مقام صفة “مستبد” كلمات: جبار، وطاغية، وحاكم بأمره، وحاكم مطلق. وفي مقابلة “حكومة مستبدة” كلمات: عادلة، ومسؤولة، ومقيدة، ودستورية. ويستعملون في مقام وصف الرعية (المستبَدّ عليهم) كلمات: أسرى، ومستصغرين، وبؤساء، ومستنبتين، وفي مقابلتها: أحرار، وأباة، وأحياء، وأعزّاء.    

   هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات، وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا، أو حكما، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب مُحَقَّقَين. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما هي غير مكلفة بتطبيق تصرُّفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المطلقة، أو هي مقيّدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه هي حالة أكثر الحكومات التي تسمي نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية.    

   وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها، ويكفي هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله الاختلاف نوعا، وقد يكون عند الاتفاق أضرّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرَّقة فيها بالكلية قوّة التشريع عن قوّة التنفيذ و عن المراقبة، لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشترعين، وهؤلاء مسؤلين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب.    

وأشد مراتب الاستبداد التي يُتعَوّذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول: كلّما قل وصف من هذه الأوصاف خفّ الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلا، وكذلك يخف الاستبداد طبعا كلما قل عدد نفوس الرعية، وقلّ الارتباط بالأملاك الثابتة، وقل التفاوت في الثروة، وكلما ترقى الشعب في المعارف.    

إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه، كما جرى في صدر الإسلام في ما نقم على عثمان ثم على عليٍّ رضي الله عنهما، وكما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين و بناما و دريفوس.    

ومن الأمور المقررة طبيعة وتاريخيا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظمَّة … ‘‘.

X