الفهرس

مالك بن نبي

في كتابه ’’شروط النهضة‘‘، تطرق المفكر الراحل، مالك بن نبي، إلى مجموعة من المواضيع ذات الصلة آنذاك بوضع الجزائر  وهي على طريق الاستقلال .. لكن الكاتب كان شموليا في نظرته ولم يكتف بالمحلي فخاطب الأمة بل وكل حضارة إنسانية عندما وزع مكوناتها بين الإنسان والتراب والوقت ليجعل من مؤلفه وثيقة توصيفية لمكامن الخلل، وفي نفس الوقت دليلا نظريا للخطوات التي يستلزم خطوها لتحقيق الاستقلال الحقيقي.

وعندما تحدث عن شروط النهضة، أراد أن يشير إلى مثبطاتها، أو بالأحرى إلى المشكلات التي تعيق الوصول إليها، فتحدث أولا عن معامل الاستعمار وكيف يسعى إلى تضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمَرة، ثم تطرق في فصل آخر عن معامل ثانٍ في غاية الخطورة، ألا وهو ’’معامل القابلية للاستعمار‘‘، وهو ما أردنا أن ننقله هنا لما يحتويه النص من أفكار ودلالات يصح للمرء أن يسير على هديها في وقتنا هذا لاستنباط بعضٍ من قواعد التحرر والنجاح.     

يقول مالك ابن نبي:    

’’نحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لمعامل آخر ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته.     

فنرى أولا هذا الرجل يقبل اسم (الأهلي)، يوم استأهل لكل ما ترمي إليه المقاصد الاستعمارية، من تقليل قيمته من كل ناحية، حتى من ناحية اسمه.    

ومما يلاحظ أنه منذ سنين قليلة، كان هذا الرجل يحمل هذا الاسم راية له، وكانت الجرائد تعنون بها صفحاتها، وكنا نسمع هذه الكلمة تتردد في خطب الطبقة المثقفة (الأهلية) ونقرؤها في مقالاتها.    

وإذا لم نكن شاهدنا خصيانا يلقبون أنفسهم (بالخصي) فقد شاهدنا مرارا مثقفين جزائريين يطلقون على أنفسهم (الأهلي).    

ومعنى ذلك أننا قد أخذنا أنفسنا بالمقياس الذي تقيسنا به (إدارة الشؤون الاستعمارية).     إن المستعمر يريد منا بطالة يحصل من ورائها يدا عاملة بثمن بخس فيجد منا متقاعدين، بينما الأعمال الجدية تترقب منا الهمة والنشاط.

وهو يريد منا جهلة يستغلهم، فيجدنا نقاوم ذلك الجهد البسيط المبذول عندنا ضد الأمية وهو جهد (جمعية العلماء).    

وهو يريد منا انحطاطا في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا، تلك الرذيلة التي تكون نفسية رجل (القلة)، فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة، التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا.    

وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزابا، حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية، كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية، فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية، التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة. 

وهو يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح، حتى نكون قطيعا محتقرا، يسلم نفسه للأوساخ والمخازي، فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته.    

وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملا باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا.    

وربما لم نكن لنفقه لهذا الداء الباطني معناه الاجتماعي، لولا أن الفئة اليهودية في الجزائر قد لقنتنا درسا مفيدا، فقد رأينا كيف أن اليهود أثناء الحرب الماضية كانوا يعيشون ساعات شديدة من الاضطهاد، كانت الدوائر الحكومية تحكمهم بقوانين قاسية، تنغص عليهم حياتهم في ميدان.    

كان أبناؤهم يُنبذون من من دور التعليم، وتجاراتهم تعرقل بمختلف القوانين، وكانوا في هذه الحقبة على وشك أن تصيبهم العوامل التقليلية، التي قللت من قيمتنا نحن المسلمين، غير أنه سرعان ما قام اليهود برد الفعل. 

فتكونت مدرسة سرية في كل بيت من بيوتهم، يُدَرّس فيها أساتذة متطوعون، فيهم المهندس والطبيب والمحامي، يتطوعون بلا ثمن.    

وقد عمروا معابدهم أكثر من ذي قبل، في حين أن أعمالهم التجارية قد استرسلت في نشاطها أحسن وأقوى من الماضي، بفضل تعاضدهم في الضراء على مبدأ (الجميع للفرد والفرد للجميع).    

وهكذا أتيح لليهود أن يجتازوا ساعات الخطر ساعين منتصرين على الرغم مما كانوا يعانون من معوقات خارجية، سلطت على حياتهم في كل جزئياتها.    

ولقد كان نجاحهم منطقيا، فإن أنفسهم لم تكن معلولة من باطنها، ولم يكن من معوق داخلي يمسكهم عن التقدم، ويحط من قيمة أنفسهم بأنفسهم.    

وإننا لنجد في نجاحهم المثل لانتصار الفرد غلى البيئة، مهما كانت ظروف حياته، وإن لنا في ذلك درسا يعلمنا كيف يتعلم الأطفال بلا مدارس مفتوحة، وكيف تنشط حياة قوم تحت الضغط والمراقبة. وهكذا يؤدي القيام بالواجبات إلى كسب الحقوق.    

إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين ((أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم)).    

إن الاستعمار لا يتصرف في في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقا يتحدث فيها وأقلاما يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له بعلمه وجهلنا.    

والحق أننا لم ندرس بعدُ الاستعمار دراسة علمية، كما دَرَسَنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر.    

إننا أمام قضية خطيرة وجديرة بدراسة خاصة، ولسوف ندرسها يوما ما إن شاء الله*.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*(وقد تم نشر جانب من هذه الدراسة فعلا في كتاب ’’الصراع الفكري في البلاد المستعمرة‘‘)

X