يعود انتشار الفرنسية في الجزائر، أو بالأحرى، فرضها كلغة رسمية، إلى الحقبة الاستعمارية التي امتدت من سنة 1830 إلى سنة 1962.

خلال تلك المدة الطويلة التي بلغت 132 سنة، وظّفت سلطات الاحتلال الفرنسية كل الوسائل المتاحة لها، الثقافية والقمعية، لمحاصرة العربية وفرض الأمر الواقع على الجزائريين.

لكن الملاحظ أنه بعد الاستقلال، لم تَجْرِ برامج التعريب وخططه وفق ما كان ينادي به الثوار الجزائريون، وتعثّر تنزيل الإعلانات والقوانين المتعلقة بتعريب الإدراة والتعليم لعدة أسباب.

ورغم صدور القانون القاضي بتعميم استخدام العربية في القطاعات الحكومية سنة 1991، إلا أن تنفيذه حوصر بفعل النفوذ القوي الذي يتمتع به ’’اللوبي الفرنكفوني‘‘ داخل الجزائر. وبالتالي، استمرت الفرنسية اللغة المهيمنة في كل القطاعات، لا سيما المالية، كما استمر تدريسها بالمدارس العمومية الجزائرية ابتداء من مستوى السنة الثالثة من سلك الابتدائي.

وإذا استثنينا كلا من وزارة الدفاع ووزارة العدل، اللتين قررتا، منذ عدة سنوات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في مجالات الإدارة واستبدالها باللغة العربية، فالراجح أن المشهد اللغوي في البلاد لم يطرأ عليه تغيير مهم منذ ذلك الحين إلى حدود الأشهر الماضية.

لكن، وعلى غرار باقي الشعوب في الدول المغاربية، كانت ثمة دائما مطالبات في الجزائر بإنهاء التعامل باللغة الفرنسية وعدم تداول الوثائق في الإدارات والمؤسسات الحكومية بها؛ ثم اشتدت هذه المطالبات في الآونة الأخيرة، وأضحت مطلبا من مطالب الحراك الجزائري، وارتفعت الوتيرة، خصوصا بعد تصريحات ماكرون بشأن تاريخ الجزائر، وقبلها، إصدار قرار فرنسي بتقليص التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين إلى النصف، مما أدى إلى سحب الجزائر سفيرها من باريس، ومنع تحليق الطيران العسكري الفرنسي في أجوائها الإقليمية.

وقد توالت في الآونة الأخيرة، الأنشطة والتحركات لإحياء ملف مطلب إنهاء التعامل بالفرنسية، مع التأكيد على أهمية الرجوع إلى اللغة العربية وإدخال اللغة الإنجليزية كلغة ثانية للبلاد بالنظر إلى اعتبارها أداة أساسية للعلم والتواصل على المستوى الدولي.

ففي مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أطلق ’’منتدى المواطنة والبيئة‘‘ الجزائري، حملة مليونية لجمع التوقيعات، بهدف السير في اتجاه تغيير لغة التدريس من الفرنسية إلى الإنجليزية، وما تزال الحملة متواصلة على الأنترنت.

وفي الثالث من نفس الشهر، طالبت حركة ’’مجتع السلم‘‘، الممثلة لأكبر حزب إسلامي بالجزائر، بتفعيل ’’قانون تعميم استخدام العربية‘‘.

وفي نفس السياق، دعا عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، إلى ’’قطع الصلة بلغة فرنسا وثقافتها‘‘.

وما تزال القرارات المتعلقة بتفعيل محتوى ’’قانون تعميم استخدام العربية‘‘ غير كافية للحديث عن عملية متكاملة لإنهاء التعامل بالفرنسية في البلاد، وهناك من يصفها بأنها قرارات محتشمة وليس بإمكانها تغيير الوضع التراتبي للغات المستعملة في الجزائر بشكل عميق.

ومن أهم القرارات الحكومية الصادرة مؤخرا في هذا السياق، هناك قرار وزارة التعليم العالي بالتدريس باللغة الإنجليزية خلال الموسم الجامعي الجاري في معهد الرياضيات ومعهد الذكاء الاصطناعي. وقد وصفت سفارة الولايات المتحدة بالجزائر القرارَ بأنه ’’سيغير مستقبل التعليم في البلاد‘‘.

هذا، مع الإشارة إلى أن تدريس اللغة الفرنسية بالمدارس الجزائرية يبدأ في السنة الثالثة ابتدائي، أما تدريس الإنجليزية فيبدأ  في السنة الثانية من التعليم المتوسط (إعدادي).

وتظل قرارات وزارات ’’التكوين المهني‘‘، و ’’الشباب والرياضة‘‘، و ’’العمل‘‘، أهم القرارات الصادرة في الآونة الأخيرة المتعلقة بإنهاء التعامل بالفرنسية واستخدام العربية حصرا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق. فضلا عنما يتداوله الإعلام المحلي الجزائري عن قيام مؤسسات صحية حكومية باتباع نفس الإجراءات. عِلماً أن الدراسة في شعبة ’’الطب‘‘ بجامعات الجزائر تجري باللغة الفرنسية.

يتساءل البعض، إن كانت هذه القرارات وغيرها تمثل نهجا وطنيا تتبناه الدولة كبرنامج ذي أبعاد استراتيجية، أم أنها مجرد إجراءات وقتية ظرفية للاستهلاك المحلي، يسعى بها أصحابها إلى احتواء الشارع والظهور بمظهر المتجاوب مع مطالب الحراك الشعبي الذي بالإمكان أن يعود من جديد وفي أي وقت ليملأ شوارع الجزائر؟

في حين يرى البعض الآخر، أن إبعاد الفرنسية عن سائر المجالات الحيوية للبلاد بعد أزيد من قرنين من التغلغل والهيمنة، من شأنه أن يؤدي في نهاية الأمر إلى إنهاء التبعية الاقتصادية لفرنسا؛ وهو أمر معقد في ظل الوضع الاقتصادي الراهن للبلاد، كما أنه يتطلب بديلا استراتيجيا كان بالإمكان أن يُجسِّده فضاء مغاربي موحد ومنسجم، لكن هذا الأخير غير موجود الآن، وعلاقات دوله تسودها خلافات، لاسيما بين المغرب والجزائر. ومن ثمة، لا يمكن تصور نجاح خطوة تسير في اتجاه مواجهة فرنسا وهيمنتها ونفوذها في المنطقة بمعزل عن اتحاد مكونات الفضاء المغاربي.

 (الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X