كيف دخلت اللغة العربية إلى المغرب الأقصى وكيف تعامل معها المغاربة؟ وهل صحيح ما يقال بأنها فرضت بالسيف؟

إن سكان بلاد المغرب بصفة عامة، وسكان المغرب الأقصى بصفة خاصة، أحبوا العربية كغيرهم ممن عرفوها أو احتكوا بأصحابها، وتعاملوا بها في شتى مجالات الحياة لما وجدوا فيها آنذاك من منافع. وليس صحيحا ما قيل ويقال بأن العربية تسللت إلى بلاد المغرب بالسيف، وبأن الناس أجبروا على استعمالها؛ فغاية الادعاء نَسْف الوعاء  الحامل لفكر الشعوب التي تبنت العربية ومَحْو ذاكرتها التاريخية وإحداث نوع من التصادم بين مكوناتها البشرية.

  إن الأُسر البربرية التي حكمت المغرب الأقصى، وامتد حكمها في أوقات إلى الأندلس والمغرب الأدنى، كان بإمكانها لو شاءت إقرار اللغة البربرية واستبعاد العربية؛ ولم يكن ثمة ما يرغمها على اتباع مذهب أو اعتماد لغة ضد إرادتها وإرادة شعوبها. فالقرارات التي اتخذتها السلطات السياسية في المجالين الديني واللغوي منذ عهد المرابطين مرورا بالموحدين إلى المرينيين، كانت قرارات سيادية، اتخذها الحاكمون بمشيئتهم، دون قيد أو شرط أو وصاية من لدن قوة دخيلة.

  وعندما قرر المرابطون اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية ولغة للأدب والفكر، فلأن عقيدة المغاربة التي اختاروها وتبنوها بإرادتهم كانت تقتضيها .. فالمغاربة لم يقفوا عند اعتناق الدين الإسلامي بل تجاوزوا ذلك إلى التكلف بنشره وحراسته وتقويته. ثم إن اللغة العربية كانت لغة العلم والفكر في ذلك العصر، يتوافد الطلبة من شتى مناطق العالم على الحواضر العلمية الإسلامية كبغداد والقيروان وفاس وقرطبة لتحصيل العلوم التي كانت تقدم باللغة العربية .. هكذا نفهم قرار السلطة السياسية في ذلك الحين باعتماد اللغة العربية لغة رسمية، لأنها كانت الوعاء الحامل للمعرفة، ولأنها لم تُفرض، بل تم تبنيها اختيارا، وأحاطها المرابطون أبناء صنهاجة بالرعاية فمهّدوا بذلك لقيام حركة فكرية مهمة في المغرب الأقصى.

  وفي عهد الموحدين، ومع زعيمهم محمد ابن تومرت صاحب ’’المرشدة‘‘ وكتاب ’’أعز ما يطلب‘‘ المكتوب باللغتين العربية والبربرية، علا شأن لغة الضاد وتطورت حركة التعريب لما امتزج الفكر المغربي الأندلسي وتلاقت فيه الأفكار، كأفكار ابن طفيل وابن رشد مع  غيرهم  من مبدعي ذلك العصر؛ ويجوز القول بأن صياغة التاريخ الرسمي للدولة المغربية قد بدأ من هنا، بإيعاز من السلطة السياسية، فنبغ في هذا الشأن كثير من الأسماء ذات الأصول البربرية، كالبيذق وابن القطان وابن صاحب الصلاة وغيرهم.

  وعودة إلى مسألة التعريب، يجب القول، بأن الحركة كانت قد بدأت مع المرابطين ثم تطورت مع الموحدين ثم عمّ الأمر مع مجيء القبائل العربية من بني هلال، وارتفعت وتيرة التعريب في العصر المريني بالتفاعل الكبير مع الثقافة المشرقية ومناهجها التعليمية وبانتقال فئات كثيرة من المجتمع الأندلسي للاستقرار في المغرب الأقصى بعد سقوط أهم القواعد الأندلسية في يد المسيحيين. ومن ثمة، أضحت العربية إلى جانب البربرية لغة أهل  المغرب الأقصى لأن الدين كان طالبا لها، والدين كما يقول ابن خلدون في المقدمة ـ إنما يُستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب. لكن اللغة العربية في المغرب الأقصى، وفق ملاحظات ابن خلدون نفسه، انفردت بخصائص محلية أبعدتها شيئا ما عن اللغة العربية المضرية الأصلية، إذ ’’غلبت العجمة فيها وصارت لغة أخرى ممتزجة‘‘.

  وعلى أية حال، تحققت في المغرب المريني إنجازات وأعمال قيمة في المجال اللغوي والأدبي، كان أصحابها ينحدرون من أصول مختلفة، لكنهم انصهروا في إطار ثقافي جامع أنتج أعمالا تميزت بطابعها الخاص، فظهرت فنون ومواضيع أدبية منبثقة من صميم الحياة المغربية، كأدب المولديات وأدب الزهديات والملحون، واعتمد المغاربة طريقة خاصة بهم في تعليم علوم اللغة العربية، كاستعمال الشعر في نظم الكتب التعليمية واعتماد أسلوب المختصرات العلمية، واشتهروا في باب النحو حتى فاقوا أقرانهم في المشرق؛ وهذه ’’المقدمة الآجرومية في مبادئ اللغة العربية‘‘ خير دليل على ما نقول، ألفها محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي المعروف بابن آجروم (1273م/1323م)، أوجز فيها كتاب ’’الجمل‘‘ للزجاجي فأضحت عمدة الطالبين للدراسات النحوية في المغرب والمشرق، ولم تزل كذلك حتى وقت قريب؛ واشتهر عدد كبير من الأعلام في هذا المجال، يصعب حصرهم في هذا المقال.

  وإجمالا، ألّف المغاربة كتبا قيمة في العديد من العلوم، لا سيما في فترة أوج العهد المريني، والتزموا التأليف باللغة العربية الفصحى بإرادتهم وباختيارهم وبقيادة السلطة المرينية الزناتية البربرية؛ وباللغة العربية الفصحى كتبوا تاريخهم الرسمي على خطى الموحدين، وكان من أبرز مؤرخيهم علي بن أبي زرع الفاسي صاحب ’’روض القرطاس‘‘، فمتُن وضع العربية في المجتمع المغربي وصارت جزءا لا يتجزأ من هُويته. ولم يحدث أن تفاعل سكان بلاد المغرب مع لغة أخرى كتفاعلهم مع العربية الفصحى، إذ بها دوّنوا تاريخهم وسجلوا علومهم وكتبوا أفكارهم فساهموا بذلك في بناء الحضارة الإنسانية، وبالتالي أصبحت العربية لغتهم التي يحرصون عليها من الضياع ويشاركون أصحابها الأصليين ملكيتها لأنهم خدموها  وزرعوا حقولها بشتى البذور أخرجت مع مرور الزمن ثمرات مختلف ألوانها تسر الناظرين والطالبين.

المصدر: هذا النص هو جزء من مقال  نشره مدير تحرير الفهرس (سعيد منصفي التمسماني) في وقت سابق.

لقراءة المزيد من مقالات مدير التحرير

X