تعيش الأحزاب اليسارية المغربية منذ سنوات، حالة من التراجع على مستوى رصيدها الشعبي، وكذلك على مستوى تنظيمها الداخلي وتماسك بنياتها وقواعدها، على نحو يضع علامات استفهام كبيرة حول مستقبلها وحجم تمثيليتها في البرلمان بعد الانتخابات القادمة.

انشق حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال سنة 1959. ومن رحم الحزب المنشق، سيخرج إلى الساحة السياسية سنة 1975 حزب آخر هو ’’الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية‘‘ بقيادة كاتبه الأول عبد الرحيم بوعبيد.

ومنذ ستينيات القرن الماضي، شكّل اليسار قوة سياسية وازنة في البلاد، قادت المعارضة لعقود، وتعرّض بعض أعضائه للاعتقال والقمع خلال ما عُرف بسنوات “الرصاص” في المغرب؛ كما اغتيل اثنان من قياداته ورموزه الكبار، وهما: المهدي بن بركة، وعمر بنجلون.

ثم جاءت اللحظة الفاصلة في تاريخ اليسار بصفة عامة، وحزب الاتحاد الاشتراكي بصفة خاصة، عندما تصدر هذا الأخير انتخابات سنة 1997، ليتولى بعد ذلك الراحل عبد الرحمن اليوسفي، زعيم الاشتراكيين، قيادة ’’حكومة التناوب من فبراير/شباط 1998 إلى نونبر/تشرين الأول 2002.

وفي الانتخابات التشريعية التي جرت سنة 2002، احتل حزب الاتحاد الاشتراكي  المرتبة الأولى، لكن ذلك لم يفده لقيادة الحكومة لولاية ثانية، حيث سيعين الملك  محمد السادس وزير الداخلية السابق، إدريس جطو، المنتمي لفئة التقنقراط، على رأس الحكومة، وهو ما دفع باليوسفي إلى التعليق على الوضع بمقولته الشهيرة، بأن المغرب ’’حاد عن المنهجية الديمقراطية‘‘، وبعدها اعتزل اليوسفي، الزعيم وصاحب الشخصية الكارزماتية، العمل السياسي إلى أن توفي في 29 ماي/أيار من سنة 2020، وبوفاته فقد الاتحاد الاشتراكي واحدا من آخر رموزه التاريخية.

ورغم القرار الملكي بتعيين إدريس جطو كوزير أول، فإن حزب ’’الاتحاد الاشتراكي‘‘ سيشارك في تلك الحكومة، كما سيشارك في حكومة عباس الفاسي (من حزب الاستقلال) التي جاءت بعدها، قبل أن يصطف في المعارضة خلال حكومة عبد الإله بن كيران (2012-2016)؛ ويعود إلى المشاركة في الائتلاف الحكومي الحالي، بوزير واحد (محمد بعبد القادر وزير العدل).

ومنذ 2007، أخذ الاتحاد الاشتراكي في التراجع عندما انتقل عدد مقاعده في مجلس النواب من 50 في 2002 إلى 38 مقعدا. واستمر التراجع عندما نال الحزب 20 مقعدا فقط من أصل 395 في انتخابات 2016، بتراجع 19 مقعدا عن انتخابات 2011.  ويعيش الحزب هذه الأيام على وقع مشاكل داخلية، كالتي يعرفها مع فرعه الإقليمي بمدينة طنجة، مما يجعله في وضع حرج قد يؤثر على أدائه ونتائجه في الانتخابات المقرر إجراؤها في شتنبر/أيلول القادم.

ويوجد في المشهد السياسي المغربي حاليا، عدد من الأحزاب اليسارية، أبرزها حزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب التقدم والاشتراكية (معارض ) بـ 12 مقعدا، وفدرالية اليسار الديمقراطي (معارضة) المؤلفة من تحالف يضم ثلاثة أحزاب هي: الاشتراكي الموحد، والطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والمؤتمر الوطني الاتحادي بـمقعدين. هذا بالإضافة إلى أحزاب يسارية أخرى لم تتمكن من الحصول على تمثيلية داخل البرلمان.

وفي سنة 2019 غادر حزب ’’التقدم والاشتراكية‘‘ الائتلاف الحكومي والتحق بصفوف المعارضة بعد أن شارك في حكومة بنكيران (الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية) والسنوات الأولى لحكومة سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية (والأمين العام الحالي لحزب العدالة والتنمية).

وتعيش فدرالية اليسار الديمقراطي، بدورها، حالة من الصراعات الداخلية، بسبب قرار، نبيلة منيب، الأمينة العامة لحزب الاشتراكي الموحد (أحد مكونات الفدرالية)، بالانفصال عن الكتلة وتقديم حزبها  ترشيحاته بعيدا عن قائمة الفدرالية. واقترحت منيب بدل ذلك، إنشاء ’’كونفدرالية‘‘ لليسار، على أساس أن تبقى المكونات الحزبية ’’مستقلة‘‘. واعتبرت، في لقاء مع الصحافة في الإذاعة الوطنية بُثَّ يوم الأربعاء الماضي، أن تأسيس حزب موحد، سيكون أمرا ’’صعبا الآن‘‘، داعية أولا إلى “تقوية الثقة”؛ مشيرة في الوقت ذاته،إلى استمرار الخلافات الفكرية والنظرية، بين المكونات.

ويعتقد الكثيرون من المتتبعين للشأن السياسي المغربي، أن الاتحاد الاشتراكي استنزف طاقاته خلال قيادته لحكومة التناوب، ثم مشاركته في حكومتي جطو وعباس الفاسي، وأنه أحرق أوراقه خلال تلك المرحلة الصعبة من تاريخ المغرب، لا سيما في فترة حكومة التناوب، حيث كان مجبرا على تبني سياسات إصلاحية ’’قاسية‘‘ تميزت بعدم شعبيتها  وعدم إرضاء عموم الناس، وأن تأثير ذلك لم ينحصر في ميدان حزب الاتحاد الاشتراكي، بل طال اليسار برمته.

ومن جهة أخرى، ساهم اليسار من تلقاء نفسه في تراجع شعبيته بسبب كثرة الانقسامات والتفريعات التي عرفتها أحزابه الكبرى؛ بالإضافة إلى أنه لم يستطع إبداع خطاب جديد قادر على إيصال مشروعه إلى قواعد المجتمع والتأقلم مع المستجدات السياسية والاجتماعية التي عرفتها مرحلة ما بعد حكومة التناوب.

يضاف إلى ما سبق ذكره، أن أحزاب اليسار لم تعط النموذج الديمقراطي على مستوى تنظيمها الداخلي، بل العكس من ذلك، فقد انخرطت قياداتها في صراعات داخلية مع قواعدها وشبيبتها الحزبية، مما أفقدها مصداقية الخطاب حتى أمام من كانوا يصنفون ضمن أنصارها.

فهل بعد رحيل اليوسفي، سينطبق على اليسار المغربي ما ينطبق على الرجل المريض‘‘، أم إن قواعده ما تزال قادرة على إحداث التغيير وإعادة دماء الحياة إلى كيانه؟؟

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X