هل كان العمل مخططا له بالفعل من طرف بريغوجين بهدف الاستيلاء على السلطة؟ أم أنه مجرد صناعة أشرفت عليها المخابرات الروسية؟ ومن المستفيد حتى الآن من ’’تمرد السبت 24 يونيو؟ بريغوجين؟ أوكرانيا وحلفاؤها؟ أم بوتين؟

ما حصل يوم السبت 24 يونيو 2023 يُشَكّل حدثا كبيرا في تاريخ روسيا خلال عهد الرئيس فلادمير بوتين. ذلك أن حدوث محاولة انقلابية بقيادة زعيم منظمة شبه عسكرية ضد الدولة وأركانها ليس بالأمر الهيّن ولا الحدث العابر. فالعملية، إن صحّت الروايات بشأنها، بأبعادها الأمنية والسياسية هي بمثابة نقطة فاصلة بين ما كان وما يمكن أن يكون في المستقبل.

لا أحد كان يتوقّع أن يذهب مؤسس مجموعة ’’فاغنر‘‘ يفغيني بريغوجين إلى أبعد حدٍّ بإعلانه التمرد على سلطة الدولة والسيطرة على مبنى المقر التابع لوزارة الدفاع الروسية في مدينة ’’روستوف نا دون‘‘ جنوب البلاد.

ما كان يبدو حتى ساعات قُبيْل إعلان التمرد مجرد خلاف بين زعيم فاغنر وقيادة الجيش الروسي، تحوّل فجأة إلى  عصيان مسلح صوّب قوّته وآلياته مباشرة نحو موسكو عاصمة الدولة وتسبّب في مقتل عدد من الطيارين الروس حسب الأخبار الرسمية الروسية.

اتّسمت ردود الفعل الدولية بالحذر، وجاءت التقارير الإعلامية مفتقرة للمعلومة المُوَثّقة، ذلك أن المصدر الأساسي للأحداث كان يأتي من وكالات الأخبار الروسية ومما كان يصرّح به بريغوجين في بعض التسجيلات وكذا بعض الصور والفيديوهات الشخصية التي تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي.

مع انطلاق الساعات الأولى لعملية التمرد، نقلت واشنطن بوست عن ما سمّته مسؤولا عسكريا غربيا قوله بأن ثمة ثلاثة سيناريوهات يتم تحليلها بشأن خطوة فاغنر، وهي: ’’التمرد، والخداع، والاستفزاز‘‘، مضيفة، حسب نفس المصدر، بأنه على بريغوجين أن يدرك أنه فقد المكانة والثروة التي جمعها بدعم من الكرملين.

الرواية الرسمية الروسية اعتبرت العملية بأنها تمرد، ووصفها بوتين في خطابه العاجل بأنها خيانة لروسيا. أما دميتري ميدفيديف، رئيس روسيا السابق ونائب مجلس الأمن الروسي حاليا، فقد اعتبر أن ما قام به بريغوجين أنه تمرد مسلح وعملية مدروسة ومخطط لها جيدا وأن الغرض منها الاستيلاء على السلطة.  

لكن ميدفيديف أضاف تصريحا آخر  يحمل في طياته دلالات وتأويلات مختلفة، عندما قال: ’’لن ندع الأحداث تسير وفقا للسيناريو المخطط له كي يتمكن قطاع الطرق من الحصول على أسلحة نووية‘‘.

هل كان العمل مخططا له بالفعل من طرف بريغوجين بهدف الاستيلاء على السلطة؟ أم أنه مجرد صناعة أشرفت عليها المخابرات الروسية؟

وكالة سي إن إن أفادت يوم حدوث العملية، نقلا عن مصادر، أن الاستخبارات الأمريكية والغربية كانت على علم بأن بريغوجين كان يحشد الأسلحة والذخيرة قرب روسيا، وأن مزاعمه عن نقص الذخيرة كانت خدعة للقيام بتحدٍّ عسكري.

أما الواشنطن بوست فقد أوردت عن مسؤولين أمريكيين قولهم إنهم حصلوا على معلومات منتصف يونيو عن تخطيط بريغوجين للتحرك ضد وزارة الدفاع.

هذه الأخبار وغيرها، إن صحّت، فإنها تفيد بأن بريغوجين كان على اتصال بجهات خارجية تقاطعت مصالحها معه لتنفيذ مخطط التمرد. وفي جميع الأحوال، فإن الخبر الوارد عن  وول ستريت جورنال من أن واشنطن تعتزم تأجيل فرض عقوبات جديدة على فاغنر يؤيد الرأي القائل بتواطؤ المخابرات الغربية مع زعيم مجموعة فاغنر.

لقد كان واضحا، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ميْلُ الرواية الإعلامية الغربية إلى فرضية حدوث انقلاب عسكري في روسيا. كما كان هناك حديث متدوال بكثرة في الأوساط الإعلامية عن وجود مخطط للاستخبارات الغربية للإطاحة بالرئيس بوتين بتواطؤ مع بعض القيادات العسكرية الروسية.

لكن الوقائع حتى الآن تُبيِّن أن محاولة الانقلاب لم تصدر عن القيادات العسكرية الروسية، إنما عن قائد مؤسسة شبه عسكرية. كما أنها تُبيّن أن سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي كان على صواب عندما امتنع عن تزويد قوات فاغنر بالآليات الحربية الثقيلة خلال عملية السيطرة على باخموت. كما أنه كان على صواب مرة أخرى عندما أصدر قرارا يقضي بوضع جميع المجموعات الشبه العسكرية تحت قيادة وزارة الدفاع اعتبارا من أول شهر يوليو (2023)، وهو القرار الذي حظي بدعم الرئيس بوتين وكان في نفس الوقت سببا رئيسيا وراء الخلاف الحاد بين شويغو وبريغوجين.

وبالرغم من رجاحة الدلائل التي تؤيد نظرية التمرد، فإن ثمة أسئلة بشأنها تظل عالقة ويتعذّر إيجاد جواب مقنع لها. إذ كيف يمكن للمخابرات الروسية بكل أجهزتها العريقة والضخمة ووسائلها المتطورة أن تغفل عن مخطط تمرد مثل الذي نفّذه بريغوجين؟

صحيحٌ أن رئيس الحرس الوطني الروسي قد صرّح أنهم تلقوا معلومات قبل بدء تمرد فاغنر عن استعداداتهم للتحرك بين 22و25 يونيو، لكن ذلك لا يزيل اللبس حول الكيفية التي بدأت بها الأحداث والطريقة التي انتهت بها.

وأسئلة أخرى تفرض نفسها، وهي: كيف تستطيع مجموعة شبه عسكرية مكونة من خمسة وعشرين ألف مقاتل أن تهدّد جيشا قوامه بالملايين من الجنود والوحدات الأمنية ويمتلك أقوى الأسلحة الجوية في العالم المدعمة بالأقمار الصناعية وأحدث أنظمة الرصد والاستطلاع؟ وكيف تستطيع هذه المجموعة المُقسمة إلى فئات السيطرة على روستوف والسّير نحو فورونيج ومن هناك في اتجاه موسكو على مسافة تقدر بمئات الكيلومترات دون أن تتعرّض لأي قصف بالطائرات والصواريخ الروسية المتطورة وذلك في نفس الوقت الذي كانت فيه بعض المدن الأوكرانية ودفاعاتها تتلقى ضربات موجعة من طرف سلاح الجو الروسي؟

كل المؤشرات كانت تدل على أن التمرد لن ينجح، ولن يستطيع الصمود لوقت طويل، وربما هذا ما أدركه بريغوجين بعد ساعات من إطلاق عمليته .. لكن، كيف لم يدركه قبل ذلك، وهو القائد المحنك، ورفيق درب المخابرات الروسية، والمطّلع عن قرب على المعطيات الميدانية؟

في جميع الأحوال، انتهى العصيان المسلح بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو. واقتضت التسوية أن يعود مقاتلو فاغنر المشاركين في عملية التمرد إلى معسكراتهم، وأن ينسحب بريغوجين إلى بيلاروسيا. في المقابل، بادرت السلطات الروسية إلى إسقاط التهم الموجهة إليه والمتورطين معه، وأعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي إغلاق القضية وانتهاء البحث بشأن ملف المتمردين.

ورغم التسوية المعلنة على عجل، فلا يزال الغموض يحيط بالموضوع. وربما ازدادت المخاوف والشكوك من الأغراض الحقيقية الكامنة وراء كل ما حدث.

موقع أورونيوز الإخباري، أورد تساؤلات الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة البريطانية اللورد ريتشارد دانات حول ما إذا كان بريغوجين سيتوجّه إلى بيلاروسيا رفقة عناصره وهل سيؤدي ذلك إلى إمكانية القيام بعملية مفاجئة نحو كييف.

رئيس دولة ليتوانيا المجاورة ليبيلاروسيا، غيتاناس ناوسيدا، دقّ جرس الإنذار حول احتمال انتقال عناصر فاغنر إلى بيلاروسيا بهذا القول: ’’إذا انتهى الأمر ببريغوجين أو جزء من مجموعة فاغنر في بيلاروسيا من دون خطط أو نوايا محددة، فهذا يعني أنه سيتعيّن علينا تعزيز أمن حدودنا الشرقية‘‘. ولم تمر سوى لحظات ليعلق بريغوجين على ما صرح به الرئيس الليتواني بأنه لم يصل بعد إلى مينسك وبدأ الرعب في الدول الأوروبية. في حين اعتبر الرئيس البولندي أندجي دودا أن انتقال مجموعة فاغنر إلى بيلاروسيا إشارة سلبية بالنسبة إليهم، مضيفا في تصريح لاحق أدلى به من كييف أنه لا يمكن استبعاد ’’أن وجود فاغنر في بيلاروسيا يمكن أن يشكل خطرا على بولندا وليتوانيا‘‘.

بيلاروسيا من جهتها، واصلت تأكيدها على أنها مستهدَفة من طرف النيتو، وحذّرت لجنة أمن الدولة البيلاروسية من وجود موظفي أجهزة استخبارات أجنبية على أراضي بولندا وأوكرانيا ودول البلطيق بهدف تدريب مقاتلين في إطار خطة للاستيلاء على السلطة بالقوة في بيلاروس.

في هذا السياق إذن، لا بد وأن يرتبط انتقال عناصر من مجموعة فاغنر إلى بيلاروسيا بعدة تأويلات ليست بالضرورة أن تنحصر في موضوع التسوية المعلن عنها. فقائد مجموعة فاغنر وصل إلى بيلاروسيا حسب ما أعلنه الرئيس البيلاروسي الذي قال إنه عرض على بريغوجين استضافة قوات فاغنر في إحدى القطع العسكرية المهجورة في بيلاروسيا وإنه لا يمنع البيلاروسيين من الانضمام إلى المجموعة. وحسب ما أوردته قناة الجزيرة، فإن قائدا عسكريا في مجموعة فاغنر صرح بأن المجموعة تواصل عملها وأمامها وجهة جديدة في بيلاروسيا حيث تتواجد هناك قوة قتالية قوية على مسافة 100 كلم من كييف، مضيفا أن بيلاروسيا قد تضطر لمواجهة تطور جدي للأحداث وبالتالي لابد لمجموعته أن تكون على استعداد.

تشير المعلومات إلى أن الدولة الروسية تتجه بشكل أكبر نحو إحكام قبضتها على على مجموعة فاغنر، وهذا ما أشارت إليه وول ستريت جورنال عن مصادر دبلوماسية واستخبارية من أن الكرملين يتجه للسيطرة على كامل عمليات مجموعة فاغنر في العالم.

سؤال منطقي يطرح نفسه: من المستفيد حتى الآن من ’’تمرد السبت 24 يونيو؟ بريغوجين؟ أوكرانيا وحلفاؤها؟ أم بوتين؟

في جميع الأحوال، تظل هذه القراءة قراءة أولية كما ورد في عنوان المقال، ذلك أن القصة لم تنته بعد، وأن ثمة فصولا أخرى تحتاج إلى بعض الوقت للكشف عنها.

(سعيد منصفي التمسماني/وكالات)

X