المسيحية من منظور فلسطيني في مقابل مسيحية الرجل الأبيض المتعالي
بقلم: البشير عبد السلام
في بداية الأسبوع المنصرم الذي انصرم معه عام ميلادي آخر، قمت بزيارة بلدة ’’مورا‘‘ الكتلانية (إسبانيا) المعروفة بمعمارها القروسطوي، بلدة صغيرة جدا ومعزولة وباردة جدا، لكنها بالمقابل عامرة ودافئة بالتضامن مع قضية الأحرار ومناهضة الإرهاب الأمريكوصهيوني.
هناك، وجدت العلم الفلسطيني يرفرف وورقة في إحدى الأقبية، تقول باللغة بالكَتلانيّة: ((قبل 2024 على مشهد الميلاد، فإن المشهد في غزة -على بعد مائة كيلومتر عن بيت لحم- مختلفٌ جدا؛ فعوض نزول نجمة عابرة تنزل القنبلة، وعوض الذهب والمُرّ أو البخور هنالك الرصاص والشظايا والدم. وعوض أن يولد المسيح يموت طفل بريء، وعوض هيرودس هناك نتنياهو)).
هذا التضامن المسيحي مع أرض المسيح في هذه البلدة، لا نكاد نراه بالزَّخم الذي يقتضيه حدث الإبادة التي نشاهدها من بعيد مع ملايين المسيحيين عبر العالم سيما في المركز والذين يبدون وكأن نصرة أرض الناصري وشعبه لا تعني لهم شيئا كثيرا .. فلماذا يا ترى؟!
في كتاب بوافنتورا دي سوسا “لو كان الإله ناشطا حقوقيا” الذي تشرفت بتعريبه والصادر عن دار الإحياء للنشر والتوزيع بطنجة، يروي كاتبنا عن اللاهوتي المسيحي الأمريكي من أصول إفريقية جيمس كون James Cone، أن هذا الأخير كان يرى أن مسيحَ الأوروبيين البيض ليس لديه الكثير ليقولَه لملايين الأمريكيين السود المحرومين من الحقوق الأساسية. ويضيف بوافنتورا، أنه في مقابل مسيحية المركز فإن لاهوت التحرير المسيحي في الهامش وخاصة في أمريكا اللاتينية نظر إلى قصة التجسيد بتأويلية تخدُم فكرة الكفاح من أجل العدالة، حيث رأى هذا التيار التحرري أنه حين اختار الربُّ أن يتحول إلى رجل فقير ومنزوع السلطة فإنه كان يسعى لتعليم المستضعفين درساً نضالياً يُدركون من خلاله أنهم قادرين على التحرر من الظلم وتحويل عجزهم الى قوة.
ولهذا، فإن هذا التيار اللاهوتي المسيحي ذي النزعة اليسارية لا يرى في ’’كارل ماركس‘‘ عدوّاً للدين بقدر ما يراه مدافعا عن الجوهر الحقيقي للدين، سيما وأن الرجل سبق له وأن نوّه بنضال القس الألماني توماس مونتزر Thomas Müntzer في مواجهته للإقطاعية متسلحا بالكتاب المقدَّس، ثم تأتي من بعده المناضلة الماركسية ’’روسا لوكسامبورغو‘‘ التي ولدت قبل رحيل ماركس بسنوات قليلة لتدعو بوضوح إلى التصالح مع مسيحية القرون الأولى ببساطتها.
ويؤكد إنركي دوسيل في كتابه ’’الاستعارات اللاهوتية لدى ماركس‘‘، أن مشكلة ماركس لم تكن مع الدين في نسخته النبوية الأولى بل في نسخته اللاحقة. ولنقل أنه كان ينتقد بالتحديد مسيحية الفيلسوف ’’فريدريك هيغل‘‘ الذي كان يعتبر أن الدين هو عماد الدولة، قاصدا الدولة الرأسمالية والاستعمارية، وفي هذه النقطة بالتحديد وجب التوقف قليلا عن سرد النقاشات الغربية حول كنه المسيحية، والانفتاح على ما يُطرح من أفكار مسيحية داخل مجالنا التداولي، ولا أجد أفضل من العظيم ’’منير فاشه‘‘، وهو بالمناسبة مرجع ديكولونيالي حتى وإن لم يكن يصنف نفسه كذلك.
حاول منير، باعتباره عالمَ رياضيات وبيداغوجياً، أن ينزع الاستعمار عن المعرفة وعن الدين أيضا، سيما من خلال كتابه ’’مسيحية أمي ومسيحية الغرب..المسيحية من وجهة نظر فلسطينية‘‘؛ حيث نبّه إلى أن المسيحية التي عاشها في الأراضي المحتلة مع أمه التي لا تعرف الكتابة والقراءة ومع أهل حارته، لاتشبه بتاتا المسيحية الغربية التي حاول المركز تصديرها لفلسطين عبر البعثات التي كان يرسلها الفاتيكان لتعليم المسيحية لأهالي المسيح، منبها أنها مسيحية الرجل الأبيض المتعالي الذي عوض ان يأتي لفلسطين ليتعلم المسيحية في مهدها جاء ليُعلم أهلها الأصليين. لكن كما يقول منير، فإن هذا المركز جاء بالتحديد ليعلم الفلسطينيين مسيحية الامبراطور الروماني “قسطنطين” وليس مسيحية المسيح، مسيحية روما و ليس مسيحية الناصرة، مسيحية المؤسسات المسجونة في إطار النصوص والكلمات والمفاهيم لا المسيحية التي تتحدث عن نفسها من خلال تفاصيل التعايش اليومي، ولنقل إنها مسيحية قيصر لا مسيحية الشعوب.
وسيعود منير فاشه لتفصيل فكرته في رسالته التي أرسلها للبابا بينيديكت الذي هاجم في محاضرته بألمانيا النبي محمد عليه السلام واتهمه بنشر الإسلام بالعنف. والغريب في هجوم البابا أنه لم يستند على رأي لاهوتي بل إنه استشهد بكلمات الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني ترجع للقرن الرابع عشر قال فيها: ((أرني ما الجديد الذي أتى به محمد، وسوف تجد فقط ما هو شرير وغير إنساني مثل أمره لنشر الإيمان بالسيف))، ليؤكد بهذا الاقتباس الربط الذي أقامه منير بين مسيحية الغرب والسلطة الاستعمارية، حيث سينبري صاحبنا لتفنيد ادعاءات البابا والدفاع عن الإسلام من موقعه كفلسطيني مسيحي، مُعدّدا له ما يراه شخصيا مبهرا في عقيدة الإسلام التي يسهل على المؤمنين بها فهمها، ومذكرا إياه أن المسلمين تعرضوا لحملة صليبية قوية ومع ذلك لم يقوموا بالانتقام من المسيحيين العرب وطردهم خارج الديار التي عاشوا فيها لقرون، وأن تناقص عدد المسيحيين في فلسطين جاء بسبب الاحتلال الصهيوني لا بسبب تواجد الاسلام فيها.
وعودة إلى ماركس، فإنه يمكن القول إن البابا السابق كان يمثل المسيحية التي انتقدها ماركس، هذا الأخير لم يكن نقده للدين نقدا لاهوتيا وإنما كان نقدا سياسيا يرى أنه بما أن الدين هو الذي يبرر المصالح السياسية البورجوازية فإنه لا يمكن نقد هذه المصالح دون نقد الدين .
ولعل هذا الرأي حول الدين، وقد تحول لأداة هيمنة، يتقاطع نسبيا مع رأي ميخائيل نعيمة في’’وحي المسيح‘‘، حين قال: ((لو عادالمسيح، لَلَقِي على يد الكنيسة ويدالسلطة الزمنية أبشع مما لقِيَه على يد أَحبار اليهودية والسلطة الرومانية)). وهو رأيٌ يتفق كذلك مع ما ذهب إليه نيتشه من أنّ ((المسيحية هي كل ما ناضل ضدّه المسيح))، وما قالاه الاثنان قد ينطبق في كثير من الأحيان على باقي الأديان، ذلك أن سوسيولوجيا هذه الأخيرة تخبرنا بأن الدين مع النبي في نسخته الأولى الموحَّدة غير الدين وقد دخل في صراع التأويلات والمصالح من بعده، ولعل الآية القرآنية ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم)) تشير إلى هذه الظاهرة المتكررة في تاريخ الأديان.
هذا، وبغض النظر عن مصداقية تاريخ ميلاد النبي عيسى عليه السلام فلا يسعنا إلا أن نتمنى لجميع المؤمنين بنبوته من مسيحيين ومسلمين ممن يتقاسمون معه الانتصار للهامش والنضال ضد تغوّل السلطة السياسية والدينية ميلادا مجيدا وأن يكون العام الجديد أكثر حرية وكرامة وأقل خوفا من المركز، والأهم أن يكون عام حزن ووبال على الكيان الصهيوني ومن آزره غربا ومن طعن المقاومة في ظهرها شرقا، دون نسيان القاعدة الوجودية التي تقول ’’كيفما كنتم يُولَّى عامُكم‘‘.
(البشير عبد السلام)