الفهرس 

الكاتب: د. مصطفى أمزير 

بأي معيار جمالي يمكن أن نقيَِم شعرية القصيدة السياسية ؟ وهل أدبية النص الشعري، كل نص شعري،معطى أسلوبي ، أم سمة تفاعلية متحولة لها علاقة بنوع القصيدة وبسياقها التداولي أيضا؟

    الشعر السياسي: في أصول المفهوم      

   ورد في المعجم العربي: ساس يسوس بمعنى رعى يرعى؛ “والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه. والسياسة فعل السائس. يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضَها،والوالي يسوس رعيته‘‘. من هذه المعاني المعجمية للفظ (سياسة) يتبين أن الذاكرة العربية قد نسجت للكلمة دلالة إيجابية تتعلق بخدمة الآخر والقيام على أحواله والسهر على رعايتها، ومن ثم فالسياسة داخل التمثل الثقافي للإنسان العربي الأول، ممارسة نبيلة دالة على الفروسية والتتويج الأخلاقي؛ مُبادَرةٌ لخدمة الجماعة التي تمنح لمن يقوم بحمل أعبائها لقب “السيد‘‘ أو “الأمير‘‘ وتلتزم بطاعته؛ فقد ورد في الحديث:”سيد القوم خادمهم‘‘. و هذه الدلالة المرجعية للفظ في القاموس العربي، تَوَلَّدَ عنها وضع تشريعي رادف في الفقه السياسي الإسلامي بين مفهوم “الأمير‘‘ ومفهوم “الأجير‘‘، مانحا، في الأصول المرجعية للنظرية السياسية، الجماعة (الأمة) حق اختيار الحاكم وحق نزعه، فالطاعة داخل هذه المنظومة الأخلاقية المرجعية مشروطة بحسن التدبير والرعاية.     

   لم يحافظ العقل السياسي العربي الإسلامي، مع الأسف، على نبل هذا المدلول في تاريخه اللاحق، فقد غالبته الثقافة الساسانية الوثنية فغلبته، كما أن التأثر بالنظرية السياسية الغربية المعاصرة -التي حتى وإن شاركت الثقافة الإسلامية نظرتها إلى الحاكم باعتباره أجيرا- بمنظورها المكيافيلي، أفرغ “السياسة‘‘ من بُعدها الأخلاقي وملأها في المقابل بأبعاد برغماتية جعلت المصطلح يقترن في وعي الناس بالمصلحة والوصولية…     

   أما مصطلح “الشعر السياسي‘‘، فهو هذا الفن من الكلام الذي يتصل موضوعه بتناول نظام الدولة ومنهجها في التدبير داخليا وخارجيا إما بالتأييد أو بالمعارضة.     

   وقد اتصل الشعر العربي بالسياسة منذ العصر الجاهلي، فقد توسل الشاعر القديم القصيدة أداة للتعبئة الوجدانية لصالح القبيلة أو ضدها، بوقا دعائيا يفتخر بمجد الجماعة، أو منشورا سياسيا يستنكر ظلم القبيلة ويدعو إلى التمرد على نظامها الاجتماعي والاقتصادي كما يمكن أن نطالعه في شعر الصعاليك.     

   وما إن خرج الزمن العربي من منظومة القبيلة وتوغل في تجربة الدولة حتى تعقد التدبير، وكثرت الإساءات، واختلف الناس في تقويم سياسة الحكام والولاة، وتشعّب النقاش ليصل إلى قضايا دستورية دقيقة تتناول صلاحيات الحاكم، وشروط انعقاد الولاية وفسخ البيعة، وفقه المعارضة وحدودها، والموقف من المتغلب أو المستبد… نقاش سياسي اجتاح بقوة حلقات العلم ومجالس الكلام وكتب الفقه .. كان من نتائجه ازدهار الشعر السياسي داخل الديوان العربي لاسيما في المرحلتين الأموية والعباسية اللتين عرفتا صراعا حزبيا شديدا حول منصب الخلافة وأهليته، شارك فيه الشعراء العضويّون من أمثال الطرماح، والكميت، والأخطل، وكُثيِّر، وابن الرقيات… الذين ترجموا في أشعارهم المواقف الكلامية و الفقهية والحزبية التي انتسبوا إليها.     

   ما يهمنا من هذا الإرث التأكيد على أن الشاعر العربي ظل، عبر كل عصور تاريخنا الأدبي، مندمجا في واقعه السياسي، مهموما بمصيره، مدركا أن مهمة الكلمة شحذ الوعي لتعبئة وجدان الناس عبر الإطراب لصنع التحول. نعم لم يخلُ مسار الشعر السياسي العربي من محترفي “الفَدْلَكَة‘‘، الذين أتقنوا امتطاء صهوات البلاغة مسلكا لمراكمة الثروة عبر قبض ثمن الكلمة المضلِّلَة الصانعة، بوعي مسبق،الفعلِ المزيف داخل التاريخ؛ من بلاغة هؤلاء تناسلت حكمة :”الصمت من ذهب‘‘، و”احذر سيفا بين فكيك‘‘… و من رحمها صُوّر التذلل للحاكم نباهة، و”تقبيل أطرافه وإجابته بانخفاض الصوت وقلة الحركة‘‘ أدبًا (التاج في أخلاق الملوك،الجاحظ) …    

   وما إن رست سفينة التاريخ العربي على مرفأ الدولة الوطنية الحديثة، بثرواتها الهائلة المنهوبة، وبهزائمها المتتالية المخزية، وبتغول أنظمتها السياسية … حتى نشط ديوان الشعر السياسي من جديد، واستهوت القصيدة المناضلة فيالق من الشعراء الشباب الذين نذروا طاقتهم الإبداعية لتعبئة الجماهير في أفق صنع التغيير اللائق بإنسانية هذه الجزء المظلم من العالم.

أدبية القصيدة السياسية     

   المتصفح لدواوين الشعر السياسي قديمها وحديثها يستوقفه حرص شعراء هذا الاتجاه على انتهاج الوضوح مسلكا جماليا للغتهم التعبيرية بالقدر الذي يصل عند البعض حد النثرية التقريرية؛ فمن يقرأ لشعراء المقاومة الفلسطينية من أمثال سميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش في أعماله الأولى، أو للبردوني ونزار قباني وأمل دنقل ومظفر النواب وأحمد مطر.. أو لحتى كبار شعراء السياسة العالميين من أمثال الروسي “مايكوفسكي” وتشيلي “بابلو نيرودا” والتركي “ناظم حكمت”.. إلا وينتهي إلى هذا الحكم: الوضوح سمة نوعية للخطاب وليس فقط اختيارا جماليا خاصا بهذا الشاعر أو ذاك؛ فالقصيدة السياسية، وهي تراهن على التحريض والفضح والشهادة ومعانقة هموم العامة، لا يمكنها إلا تكون واضحة.

   أما ما قد يلاحظ لدى البعض من توسل الرمز و الأسطورة والانزياح كما عند السياب، أو البياتي فهو الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة، استثناء راهن على التعمية بالبلاغة على الرقابة والملاحقة والاضطهاد .. وهو المسلك الذي وإن نجح في الرفع من المنسوب الجمالي للغة التعبيرية للنص السياسي، إلا أنه ضيق عليه دائرته الجماهرية التي  انكفأت على  النخبة الأدبية التــي كان بمستطاعها وحدها استكناه جمالية الإشارات التحريضية الثاوية تحت النسج البلاغي الغامض للغة.      

   أمام هذا المعطى النوعي نتساءل هل يستقيم (علميا) تقييم جمالية القصيدة السياسية من نفس المنظور البلاغي الباحث عن كمِّ العدول والشطح والخرق داخل اللغة للحكم على شاعريتها؟ نعم إن اللغة هي الوسيط الجمالي الأوحد الذي تمر- ككل النصوص الشعرية – عبره القصيدة السياسية إلى متخيل المتلقي و وجدانه، غير أن النص السياسي في واقع الأمر لا يراهن كثيرا على الاستثمار في رأسمال التراكيب الانزياحية داخل نص أُعِدّ أساسا للتحريض والإثارة والإقناع بالموقف، وإنما يستثمر تحديدا في الأثر الذي تحدثه اللغة خارج النص؛ فجاذبية النص السياسي نابعة من قدرته على التعبئة الوجدانية داخل اللحظة والسياق المناسبين .. لذلك تتلبس لغته الشعرية، وهي تراعي هذا الأفق الجمالي الحجاجي، مظهرا أسلوبيا فيه من خصائص التركيب ما يخدم التحريض، والكشف، والشهادة على الواقع … يمكن لنا أن نستشهد في هذا الصدد بنص أبي القاسم الشابي(إرادة الحياة) مثلا، ونتساءل في خضم نجاحه التواصلي عن سر شاعريته الذي جعله قادرا على العيش طويلا وهو يتصدر الشعارات المرفوعة من قبل الجماهير في ساحات الاحتجاج السياسي، مفجرا كل مرة في الجموع المحتجة قدرا هائلا من أحاسيس التحدي وهي تردد البيتين الشهيرين: 

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ      فلابُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُـــدَّ للَّيْــلِ أنْ  ينجلـــي     ولابُـدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِــرْ          

فجمالية هذا النص الشعري المتجدد الحياة، لم تنبعث يقينا من كمية الانزياح الأسلوبي الموظف في صياغة البيتين، فلغة البيتين تكاد لا تراوح درجة الصفر من حيث قلة الخيال. لكن أثر هذا النص الوجداني عظيم داخل السياق واللحظة: سياق الظلم والاستبداد، ولحظة الاحتشاد… فقوة النص وجماليته التعبيرية، آتية من مصدر آخر غير الانزياح الأسلوبي، مما يمكن أن نسميه بالشعرية المقامية، أي من لغة النص الشجاعة التي استطاعت أن تقول، بمعجمها السهل القريب المأخذ وبصورتها الواضحة غير المتوغلة في سراديب الغموض، ما لم يستطع السائد الصامت الخائف قوله.

   من قدرة هذه اللغة على التعبئة، والشحن النفسي، وخرق الممنوع…من هذه الاعتبارات المقامية تَأَتَّت للنص شعريته التي جعلته يعيش طويلا في ذاكرة الجماهير، ليس فقط باعتباره نصّا أدبيا وإنما باعتباره كذلك موقفا شجاعا بحمولة حجاجية مؤثرة ومطربة. 

*  *  *  *      

   منتهى ما أردنا توضيحه في هذه الورقة، هو أن للنص السياسي مقومات خاصة للأدبية. وإذا كان من اللازم الحديث عن الانزياح معيارا لها، فإن حديثنا عن الانزياح يجب أن يكون حديثا داخل النوع، وداخل النسق البلاغي للغة التعبيرية للنص السياسي، وداخل، ثالثا، البعد التواصلي لهذا النوع من النصوص في لحظتها الإبداعية والتاريخية. ومن هذا التصور فقط يمكن أن نقرأ جمالية قصيدة نزار قباني أو أحمد مطر أو أمل دنقل أو البردوني مثلا؛ نماذج إبداعية تشتغل على الخرق لا بالتشكيل غير المألوف للغة، وإنما بالقدرة على قول ما لا يستطيع السائد قوله.

   طبعا حينما ننبه إلى هذا المعطى في التشكيل الجمالي للشعر السياسي لا نلغي أثر الفن على بنيته الأدبية، فنعتقد مخطئين أن الوضوح والحجاج سمتان متعارضتان مع بلاغة التصوير وأناقة الأداء. ذلك لأن الحجاج والوضوح ومقصدية التحريض والتأثير… هي سمات نوعية للخطاب، بينما التعبير بالصورة والبلاغة هي شروط جمالية لازمة لنوعية الجنس (الشعر). وعلى هذا الأفق من التصور يغدو ممكنا جدّا مع النص الشعري السياسي الجمع بين الالتزام والفكرة والموقف والوضوح … وجمالية الأداء الأسلوبي للشعر باعتباره موسيقى وخيالا…

X