الفهرس 

بقلم: د. مصطفى أمزير 

 كتب ناجي العلي معرفا بنفسه: “اسمي ناجي العلي..ولدتُ حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية “الشجرة‘‘ بالجليل الشمالي، وأخرجوني من هناك بعد 10 سنوات- في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان..أرسم ..لا أكتب أحجية ولا أحرق البخور..وإذا قيل إن ريشتي تشبه مبضع الجراح أكون حققتُ ما حلمتُ طويلا بتحقيقه..متهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها ..أنا لستُ محايدا، أنا منحازٌ لمن هم ” تحت‘‘ بالأكاذيب وأطنان التضليلات، وصخور القهر والنهب، وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحازٌ لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذا للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها..ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات..

    كنتُ صبيا حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام ، إلى “عين الحلوة‘‘ ..كنتُ صبيا وسمعتُ الكبار يتحدثون..الدول العربية..الإنجليز..المؤامرة..كما سمعتُ فـي ليالــي المخيــم المُظلمــةِ شهقــات بكــاء مكتــوم ..التقطتُ الحزن بعيون أهلي، وشعرتُ برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطا عميقة على جدران المخيم..حيث ُوجدتُ مساحة شاغرة..حفرا أو بالطباشير…‘‘

    يستمر ناجي العلي بأسلوبه الشعري الصادق الجميل بسرد أهم المنعطفات الحاسمة التي أثرت في مجرى حياته..فأول من انتبه لرسوماته كان الروائي غسان كنفاني الذي نشر بعضها في جريدة “الحرية‘‘ حيث كان يتولى إدارة تحريرها ..لم يكن لناجي متسعا من الوقت للدراسة الأكاديمية، فما إن يُخلى سبيله من السجن حتى يعود إليه بسبب نشاطاته الثورية. سيسافر إلى الكويت، وهناك سينشر إبداعه على صفحات جريدة الطليعة التي كانت تمثل التيار القومي العربي، وعند صدور جريدة “السفير‘‘ الشهيرة سيعود إلى بيروت ليعمل محررا برسوماته الكاريكاتيرية التي تناقلتها صحف عالمية كثيرة. وفي بيروت سيعايش ناجي العلي جل مآسي الفلسطينيين في لبنان ابتداء من الحرب الأهلية، فالغزو الصهيوني لبيروت سنة 1982م إلى مجازر صيدا وصبرا وشتلا ، إلى النزوح مرة أخرى..

    يؤمن ناجي العلي بالبندقية مسلكا وحيدا لاسترجاع فلسطين..كل فلسطين. لذلك شخصت رسوماته هذا الاقتناع حبورا بالفعل الثوري، وفضحا أو تنديدا بخط المساومة.. كتب ناجي العلي في سيرته : ” إني غير راض على الثورة..أشعر أن فلسطين بحاجة إلى ملائكة، جند الله، ألف جيفارا، أنبياء تقاتل، قيادات حقيقية واعية تعرف كيف ترد.. بتقديري أن الأنظمة العربية أجهضت – عمدا- ثورتنا، وبتقديري أن المقولة القائلة إن الفلسطينيين وحدهم هم الذين عليهم تحرير فلسطين هي مقولة خائنة‘‘.

     واستحضارا لهذا الاقتناع لم يسلم أي حاكم عربي من سهام سخريته اللاذعة ، فقد بدا حريصا في رسوماته على تكسير صورة “الحاكم المقدس‘‘ في التمثل الذهني للشعوب العربية ، منتهجا مجموعة من التقنيات الجمالية القوية الوقع النفسي، أوسعها توظيفا: أسلوب السخرية من غبائه الفاحش، وتصويره ، بجرأة نادرة، في كاريكاتير نمطي : ضخم الجثة ، “فارغ‘‘ الرأس من الشعر، يزحف على مؤخرته العارية “العظيمة‘‘..ولم يفلت من نقده الساخر حتى قادة الفصائل الفلسطينية المساوِمة التي أضاعت بوصلة الأرض محولة الثورة إلى علامة تجارية تراكم من خلالها الثروة والمجد الفردي الزائف ..

صَوَّرت أعمال ناجي الكاريكاتيرية عشقه للنضال الثوري من خلال رؤية أيقونته “حنظلة‘‘ الذي بدا، حزينا، متألما دوما، من مظلومية الشعوب العربية، متحفزا مبتهجا بحراكها وهي تصنع، بين الفينة والأخرى، الحدث المشرق في تاريخها المعاصر. وأمام هذا النهج الفني “الاستشهادي‘‘، أصبح رأس ناجي العلي مطلوبا في جميع العواصم .. مما دفع صحيفة القبس الكويتية سنة 1986م إلى ترحيله، وزميله الشاعر أحمد مطر، إلى مقرها في لندن ضمن فريق القبس الدولي، بعد أن لم تعد إمارة الكويت قادرة، أمنيا، على ضمان سلامته الشخصية. غير أن سلاح الغدر لم يمهل ناجي العلي طويلا ليرديه شهيدا صيف 1987م ..

      لقد كانت الخسارة فادحة باستشهاد هذا المبدع الفريد في تاريخ فن الكاريكاتير العربي حد الشعور باليتم، فناجي العلي هو الوحيد الذي كان بإمكانه أن يأخذ للمواطن العربي المسحوق حقه من الحاكم ويشبعه نيابة عنه “رفسا‘‘ و “إهانة‘‘ .. فبفقدان ريشته الجريئة المفعمة بالسخرية السوداء من مظاهر الاستبداد السياسي في أوطاننا العربية، فقد هذا المواطن من يمثل صوته داخل النخب..

     يبقى أن نشير في الأخير إلى أن  الشاعر العراقي أحمد مطر، الذي يعده بعض النقاد اللسان الشعري لرسومات ناجي الكاريكاتيرية، كان قد ترجم هذا الحزن الشديد على رحيل هذا الفنان الفذ في قصيدة عمودية طويلة من 112 بيتا  بعنوان”ما أصعب الكلام‘‘ الصادرة سنة 1987م..متهما فيها النظام الرسمي العربي ومنظمة فتح بتدبير اغتياله..يقول أحمد مطر:

أھل الكروش القابضین على القروش

 من العروش لقتل كل فدائي

الھاربین من الخنادق والبنادق

 للفنادق في حمى العملاء

القافزین من الیسار إلى الیمین

إلى الیسار إلى الیمین كقفزة الحرباء

 المعلنین من القصور قصورنا

 واللاقطین عطیة اللقطاء

اصعد؛ فھذي الأرض بیت دعارة

فیھا البقاء معلق ببغاء

 من لم یمت بالسیف مات بطلقة

من عاش فینا عیشة الشرفاء

 ماذا یضیرك أن تفارق أمة

 لیست سوى خطأ من الأخطاء!

الكل مشترك بقتلك ؛ إنما نابت يد الجاني عن الشركاء.

X