الفهرس
الكاتب: د. مصطفى أمزير
الإنسان، حسب الفلسفة المادية، جزء من الطبيعة وعليه الانسياب مع قوانينها البيولوجية التي تضبط حركة الكائنات والقائمة على مبدأ الانتخاب الطبيعي (أي البقاء للأقوى حسب شارلز داروين)، وهو المبدأ الذي يذهب إلى أن من يملك القوة له الحق في أن يوظف الأضعف من أجل الحفاظ على بقائه. ومن هذه النواة الفلسفية أصبح بالإمكان “الانتفاع‘‘ بالإنسان المادة لضمان استمرارية الإنسان المادة الأقوى، ومن داخل هذه المنظومة المعرفية المجردة من أي عواطف أو أخلاق أو أحاسيس كلية إنسانية، تولدت مصطلحات تداولتها الدراسات التاريخية و”العلمية‘‘ منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر من قبيل: مصطلح “المادة البشرية‘‘ و”الفائض البشري‘‘ و”مادة استعمالية‘‘…فكان يشار إلى البشر، داخل هذه الدراسات “العلمية‘‘، باعتبارهم مادة نافعة أو غير نافعة يمكن توظيفها أو إعادة صياغتها أو حتى إبادتها عند الضرورة.. هذا التصور هو الذي حكم ولا يزال سلوك كبرى مراكز المخابرات العالمية وهي تهيئ مسالك النفوذ لدولها في العالم ..
لن نتحدث هنا عن وقائع كثيرة من سياسة إبادة من يعيق تمدد الاستعمار، أو سياسة صنع العملاء (المادة البشرية النافعة)… وإنما سنقف عند سياسة: “إعادة تدوير المادة الإنسانية المتلاشية‘‘!
بدون شك من يتتبع التاريخ المعاصر للعالم الثالث سيجد أن الاستعمار، وهو يُبيد ويُشرِّد بقسوة وعنف، عبر تدخله المباشر أو عبر أنظمته التابعة، يحرص على ترك “رقعة جغرافية‘‘ وظيفيةٍ، مهمتها التنفيس على الاحتقانات، وتخفيف الضغط على الأنظمة العميلة من جهة، و استقطاب المعارضين السياسيين لإعادة تدويرهم، فيما بعد، كمادة قابلة للاستعمال النافع من جهة ثانية .. نتذكر كيف كانت باريس ولندن، إلى عهد قريب ، ملاذا للهاربين من القمع السياسي في إفريقيا والشرق الأوسط، بل وكيف تحولت هذه العواصم الاستعمارية إلى مراكز نشطة للعمل الاستخباراتي توغلت من خلاله داخل اتحاديات الطلبة، والتجمعات السياسية المعارضة .. من أجل استقطاب النبيهين، وذوي الطموح والميول نحو الزعامة لتحويلهم إلى قادة، وزعماء الانقلابات العسكرية في العالم الثالث داخل لعبة المغالبة الاستعمارية على النفوذ والثروات .. بشكل جعل هذا الموضوع مادة ثرية لكثير من أفلام هوليود.
أما المشهد في عالمنا العربي فقد كان دائما يتم عبر خلق مركزين موازيين للاستقطاب والتوجيه “لإعادة التدوير السياسي‘‘ للمتلاشي من المعارضين : الأول إعلامي والثاني سياسي . نتذكر كيف تحولت القاهرة إلى محج للمعارضة السياسية في العالم العربي أواسط القرن الماضي، وكيف كانت بيروت قطبا فاعلا للنشر والإعلام. ثم لاحقا، من الستينيات إلى ثمانينيات القرن الماضي، كيف أصبحت الكويت ملجأ للمثقفين الفارين من الاستبداد، وكيف شكلت إلى جانب العراق مركزا للإعلام والنشر، فيما تولت دمشق، مع نظام الأسد، مهمة استقبال الحركات اليسارية والقومية والفلسطينية المقاومة .. وفي الوقت الذي كانت فيه عواصم التوجيه الإعلامي تشتغل على ترويج مشروع ثقافي يواكب التخطيط السياسي المستقبلي للمنطقة، كانت الحاضنات السياسية والعسكرية تعمل، عبر سياسة الجزرة والعصا، على ترويض الثوار وتطويعهم وإعادة استعمالهم في غير ما ثاروا من أجله في المنطلق .. لن نضطر هنا، للبرهنة على ما نقول، إلى التذكير بتفاصيل المعارك البينية المؤلمة للفصائل الفلسطينية المتحكم بناصيتها في عواصم “الدعم‘‘، والتي أنهكت البندقية المقاوِمة و خففت، مع الوقت، الضغط العسكري على الكيان الصهيوني بالشكل الذي سمح بتمرير مشاريع التسوية عبر سلسلة من التنازلات أفضت إلى ما نحن عليه اليوم بالتفريط في فلسطين التاريخية والقبول بدويلة بلا سيادة، والتخلي الرسمي عن المطالبة بحق العودة…
كما لا يغيب ، في هذا السياق، عن ذهن أي واحد منا الانحراف التراجيدي لبعض الحركات الثورية التحررية، كما هو شأن حزب الله، التي تم توظيفها من قبل العواصم “الداعمة‘‘ أمنيا لتثبيت الأنظمة الفاسدة وهي تواجه شعوبها..
وعلى امتداد عقود، ما زالت اللعبة تؤتي أكلها، وما زال الأسلوب هو الأسلوب .. وما إن يستنفذ دور عاصمة حتى تفتح أخرى لتقوم بالدور الملائم للسياق الثقافي والسياسي المهيمن على اللحظة، كما هو حاله اليوم مع تنامي فاعلية التيار الإسلامي الذي أنتج مجمل حركات الاحتجاج السياسي للشارع العربي .. وما إن بدا الخطر محدقا بالنفوذ الاستعماري حتى كانت الأحضان مهيأة لحرف هذه الحركات عن مسارها وإفراغ زخم الشارع من أهدافه الثورية، وجعله في النهاية مطواعا للواقع، متأقلما مع نسقه السياسي الخادم للنفوذ الاستعماري .. وهكذا لاحظنا في خضم هذا الربيع كيف سارعت عواصم عشائرية رجعية، معروفة بولائها للخارج، إلى تبني خطاب الحركات الاحتجاجية الثورية (!) ، داعمة إياها ماليا وسياسيا وعسكريا، كما حصل في سوريا، وما إن امتلكت ناصيتها حتى سلمت رقبتها للنظام الرسمي العربي .. فيما تبنت عواصم أخرى الخطاب الإعلامي المناصر لحركة الشارع العربي، كما الدوحة، منفقة أموالا طائلة في إنشاء شبكات “الإعلام الاجتماعي من أجل القيادة‘‘ بهدف التأثير على رأيها العام وتوجيهه بما يخدم الآتي المخطط له في المنطقة والمانع، في الأمد البعيد، من التحول الجذري، فيما فتحت “إسطنبول‘‘ ذراعيها لاستقبال الإسلاميين الفارين من القمع السياسي، كما فعلت “طهران‘‘ سابقا، متبنية خطابهم الأيديولوجي في أفق توظيفهم، كما اعتدنا مع النماذج السابقة، لعقد صفقات سياسية مستقبلية ترتب بمهل داخل الدوائر الاستخباراتية وهي تتصارع على النفوذ والثروة في بلادنا..
ككل مرة نجحت عواصم الاستقبال والتوجيه عبر الاحتضان والدعم المادي والإعلامي في استقطاب المادة البشرية المتلاشية ، ثم أعادت في مرحلة لاحقة استعمالها للترويج لأنظمتها السياسية، وتلميع مواقفها التي قد تصل حد خيانة قضايانا المصيرية كالتعامل مع الاحتلال الصهيوني والتنسيق معه أمنيا وعسكريا، والتطبيع معه اقتصاديا .. كرد للجميل يعجز من خلاله المُحتضَن على قول”لا‘‘ عند المواقف الحاسمة .. بالشكل الذي يحوله من ثائر إلى مستعبد بيد ولي النعمة مستلب الوعي معطل الإرادة..