صناعة الكذب، وتحويل المعتدي إلى ضحية، وممارسة الخداع الممنهج، سياسةٌ اعتمدتْها إسرائيل منذ البداية ولا تزال…

أموال لا تُقَدّر، وموارد بشرّية لا تحصى، وطاقات وشركات، كلها موظفة لصناعة الكذب، وطمس الحقائق، وترويج الروايات المزوّرة، قصْد التأثير على الرأي العام وتوجيهه.

صناعة الكذب، وتحويل المعتدي إلى ضحية، وممارسة الخداع الممنهج، سياسةٌ اعتمدتْها إسرائيل منذ البداية ولا تزال.

في عدوانها على غزة، لجأت إسرائيل إلى كل وسائل التضليل والخداع للظهور في صورة الضحيّة والترويج للأكاذيب لكي يُعطَى لها الضوء الأخضر لارتكاب الجرائم في حق الفلسطينيين تحت غطاء ’’حق الدفاع عن النفس‘‘.

لجأ الخبراء الإسرائيليون إلى توظيف الذكاء الصناعي لتحريف الصور والمشاهد، فنشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صورة طفل متفحم ادّعى أنها لطفل إسرائيلي ’’أحرقه مقاتلون من حماس‘‘. لكن سرعان ما ظهر زيف الادّعاء، حيث كشف الصحفي الأمريكي جاكسون هينكل، أن ’’صورة الطفل المزعوم تعود إلى كلب في عيادة  بيطري. تم تزييفها عن طريق الذكاء الصناعي‘‘.

واضطرت الصحفية في شبكة ’’سي إن إن‘‘ الأمريكية سارة سيندر،  إلى تقديم الاعتذار عبر صفحتها في منصة إكس، عن نشرها معلومات كاذبة، زعمت فيها العثور على رضّع وأطفال صغار إسرائيليين قُطعت رؤوسهم على يد مقاتلي ’’حماس‘‘، واعترفت أنها قد ضُلّلت، وأن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي هو من أعلن عن الرواية وأن الحكومة الإسرائيلية تقول الآن إنها لا تستطيع التأكد من أن الأطفال قد تم قطع رؤوسهم.

وأمام قادة الطائفة الأمريكية كرّر بايدن نفس الكذبة، قائلا إنه لم يكن يتخيل ’’رؤية إرهابيين يقطعون رؤوس أطفال‘‘. واضطر مسؤولون في الإدارة الأمريكية إلى تدارك الموقف بعدما أخذت تتجلى الحقائق، ونفوا أن يكون بايدن قد رأى صور أطفال إسرائيليين ’’قُطعت رؤوسهم على يد حماس‘‘، موضحين أن تصريحاته كانت مبنية على ’’مزاعم‘‘ مسؤولين إسرائيليين وتقارير إعلامية.

وحتى عندما قصفت إسرائيل مستشفى المعمداني موقعة فيه مئات الشهداء، لجأ ساستها وإعلامها إلى اصطناع رواية يدّعون فيها أن المستشفى قصف من طرف مقاتلي ’’حماس‘‘، وكان هدفهم هو التملص من المسؤولية وتحويل الضحية إلى معتدٍ أمام أنظار العالم!!

لكن القناة البريطانية الرابعة نشرت تقريرا نسفت من خلاله الادعاءات الإسرائيلية، حيث عرض التقرير تحليلاً لخبراء صوت يظهر أن اتجاه القذيفة التي أصابت المستشفى معاكس لما ادّعاه ’’جيش‘‘ الاحتلال، وأن المحادثة المزعومة التي قدّمها الإسرائليون المعترضَة  بين عنصرين من ’’حماس‘‘ يعترفان فيها بتنفيذ القصف هي عبارة عن تسجيل ’’مزيف‘‘.

ولم يعبأ الأمريكيون بواجب التحقيق فيما جرى، وبدل إدانة القصف الإسرائيلي للمستشفى، أدلى الرئيس بايدن عند لقائه نتنياهو في تل أبيب بتصريح ساذج لكنه في آن واحد مستفّز، قال فيه: ’’يبدو كما لو أنه نُفّذ على يد الطرف الآخر (في إشار إلى حماس)، وليس أنتم”.

والظاهر أن لدى المسؤولين الأمريكيين القابلية لتصديق مزاعم إسرائيل، فلا يتكلفون عناء تمحيصها والتأكّد منها، بل يلجأون على وجه السرعة إلى ترويجها والبناء عليها بهدف التأثير على الرأي العام الأمريكي وجعْله أكثر استعدادا لتقبُّل العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وعلى نفس المنوال تسير الدول الغربية، وإن بوتيرة متفاوتة.

وبالرغم من أن لعبة الكذب التي تمارسها إسرائيل باتت مكشوفة، وبلغت من السذاجة ما لا يُسْتساغ، ومن الاستخفاف بعقول الناس ما لا يُطاق، فإن واشنطن تُصرّ على توفير الغطاء الدبلوماسي والعسكري لتل أبيب، وتواصل تعبئة رأيها العام بالدعاية المُضللة، من أجل إيهام الأمريكيين والعالم بأن إسرائيل في حالة ’’الدفاع عن النفس‘‘ بقتلها للأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين…!!

لذلك، لا عجب في أن نرى الولايات المتحدة بمعية بريطانيا وفرنسا واليابان وهم يرفضون مشروع قرار لوقف إطلاق النار بمجلس الأمن الدولي، تقدمت به روسيا في 13 أكتوبر الجاري، فهم بموقفهم هذا، يُوَقّعون على قرار إسرائيل باستكمال جرائمها التي ترقى إلى الإبادة الجماعية.

إن إسرائيل بأكاذيبها وعنجهيّتها، ومعرفتها المسبقة أنها فوق القانون، لا تعتدي فقط على المدنيين الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية، بل إنها تقصف كذلك المعابد المسيحية. فبعد مجزرة مستشفى المعمداني، لم يشفع لكنيسة القديس بروفيروس للروم الأرثوذكس في غزة اعتبارها ثالث أقدم كنيسة في العالم بالنظر إلى أن بناءها الأصلي أُنْجِز سنة 425م بينما تمّ تجديده سنة 1856. فقد قُصفت الكنيسة، وأصيب فيها العشرات من اللاجئين، ولحقت مبناها التاريخي أضرار  مادية كبيرة. 

ورغم كل ذلك، لم نسمع صوتا مُنددا آتيا من بابا الفاتيكان ولا من رؤساء الكنائس في العالم. أما الإعلام الغربي، فمعظمه لم يتطرق إلى الموضوع. ومن ثمة، لم يقف الناس عنده طويلا، ومرّ الاعتداء الجسيم على الإنسان والتاريخ والمقدسات دون رقيب، مثلما مرت جرائم سابقة أعظم وقْعا وأشدّ فتكاً وأثراً .. فالجميع ها هنا امستسلمٌ للرواية الإسرائيلية لا يكاد يُجادلها.

يتحمّل الغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، مسؤولية عدم التأكد من صحة ما تقدمه آلة الأكاذيب الإسرائيلية من روايات مزيفة، وهم بذلك مسؤولون عن عواقب تسخين مشاعر الكراهية في مجتمعاتهم تجاه المسلمين. وقد اطّلعنا على خبر مقتل الطفل الأمريكي الفلسطيني وديع الفيوم على يد الجاني وعلمنا مما تناقلته وسائل إعلام أمريكية أنه كان يردّد عند محاولة خنق أم الطفل، بعدما اقتحم بيتها: ’’أنتم أيها المسلمون يجب أن تموتوا‘‘…!!

ورغم جسامة ما يحدث، ثمة شعلة أمل تلوح في الأفق في أيدي فئة من أحرار العالم والمدافعين عن القيم الإنسانية، أخذت تتعالى أصواتها، ووتكاثف موافقها الرافضة لعدوان إسرائيل وأكاذيبها، علّها تكون بداية غيْث مُغيث والإعلان عن بزوغ فجر الحرية لفلسطين التي أضحت بكفاحها الأسطوري مُلهمة الأمم والشعوب التواقة للحرية، وموقظة الوعي في الضمائر.

(سعيد منصفي التمسماني/وكالات)

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني
X