مرت عشر سنوات طويلة وقاسية على أهل سوريا منذ أن خرج سكان درعة في الثامن عشر من مارس/آذار 2011 في مظاهرات رفعت شعارات مناهضة لنظام الأسد؛ وكان قد سبقها في الخامس عشر من الشهر ذاته احتجاجات في دمشق تطالب بالإصلاح والحرية.
وفي غمرة ثورات الربيع العربي، كان ثمة حلم لدى السوريين بتغيير أوضاع البلاد وتخليصها من قيود الاستبداد ووطأة الفساد؛ وكان نظام آل الأسد القابض على زمام السلطة منذ أكثر من خمسين سنة يرد بالوعد والوعيد تارة، وبالعنف والقتل تارة أخرى.
ثم سرعان ما امتدت الرقعة الجغرافية للمظاهرات، لتنتشر في معظم المحافظات السورية مطالبة بإسقاط النظام.
وبعد مرور تسعة أشهر من انطلاق الاحتجاجات، أخذت الثورة السورية منحى عسكريا، واندلع القتال بين قوات النظام والمعارضة المسلحة التي انضوت تحت مسمى ’’الجيش السوري الحر‘‘ مطلع عام 2012، وظهرت فصائل وجماعات إسلامية مسلحة تحت عدة أسماء، وتحولت سوريا إلى ميدان للحرب الأهلية وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وتبادلت الأطراف المتقاتلة الاتهامات، واتهمت المعارضة النظامَ السوري باستعمال الأسلحة الكيماوية، ودخلت البلاد برمتها أتون حرب ضارية وقذرة، راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، والملايين من المهجرين والمشردين، وانهار الاقتصاد، وأضحت سوريا شبه دولة فاشلة.
- تدويل الثورة السورية
لم يُترك السوريون لتحديد مسار ثورتهم ومطالبهم وفق أجندتهم الوطنية، إذ سرعان ما حوصرت الاحتجاجات بين التدخلات الأجنبية من جهة، وعنف النظام وجرائمه من جهة أخرى؛ ومن ثمة تحولت سوريا إلى ميدان للصراعات الإقليمية والدولية.
تدخلت بعض الدول الخليجية بالمال والسلاح بدعوى المساعدة في إحداث ’’التغيير الديمقراطي‘‘، وسارت تركيا في نفس الاتجاه، وأوجدت لنفسها موطئ قدم في شمال سوريا تحت غطاء ’’حماية المعارضة‘‘.
وتدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا سنة 2014 تحت ذريعة محاربة تنظيم ’’داعش‘‘ الذي كان يسيطر على مساحات واسعة في كل من سوريا والعراق، لكن تدخلها طال مدة طويلة، وتحول إلى وجود دائم في شرق سوريا، حيث حقول البترول، بواسطة قواعد عسكرية تضم بين 700 إلى 1000 جندي، يؤازرون القوات الكردية ضد النظام السوري وتنظيم ’’داعش‘‘ الإرهابي؛ إلا أن الوضع الذي أقامته واشنطن أغضب أنقرة التي تصنف ’’ي.ب.ك‘‘ الكردية كمنظمة إرهابية.
وعندما ضعف النظام السوري أمام ضربات المعارضة المسلحة وفصائلها المدعمة من الخارج وكاد أن ينهار، تدخلت كل من إيران وحليفها ’’حزب الله‘‘ اللبناني بصفة مباشرة في الصراع القائم، بدعوى دعم ’’محور المقاومة‘‘، واستطاع نظام الأسد أن يثبت، لا سيما بعدما أن تدخلت روسيا بدورها موفرة الغطاء الجوي للجيش السوري وحلفائه من إيران وحزب الله.
وقد شكل التدخل الروسي عاملا حاسما في مساعدة النظام السوري وحلفائه لاستعادة السيطرة على ما يقارب 60 في المائة من أراضي سوريا، فيما تراجعت سيطرة المعارضة إلى 10 في المائة في الشمال السوري مدعومة من طرف تركيا، وانحصر وجود ’’داعش‘‘ على مساحة صغيرة في البادية شرقي سوريا محاصرة من قبل قوات النظام، بينما يواصل الأكراد بمساعدة أمريكية السيطرة على ثلث الأراضي السورية في الجهة الشرقية.
- مفاوضات لا تنتهي
أشرف على الملف السوري أربعة مبعوثين دوليين هم: كوفي عنان، والأخضر الإبراهيمي، وستيفان دي مستورا، وغير بيدرسون الذي ما يزال في منصبه؛ ولم يستطع أي منهم تحقيق أدنى تقدم للخروج من نفق الأزمة السورية .. فمنذ انطلاق المسار السياسي في جنيف عام 2012، وانعقاد ثماني جولات، ما يزال الملف السوري يراوح مكانه، بسبب إصرار النظام السوري على موقفه المدعوم من طرف حلفائه، ووجود معارضة لا تمتلك حرية اختيار قرارها السياسي؛ وهذا الوضع برمته، هو ما أدى إلى فشل أعمال اللجنة الدستورية التي تم تشكيلها من مندوبين للمعارضة والنظام. كما أن مخرجات مباحثات أستانة المنعقدة في مايو/أيار 2017، بين النظام والمعارضة، والتي بموجبها حُدِّدت أربع مناطق لـ ’’لتخفيض التصعيد‘‘، تم نسفها بعد عودة العمليات العسكرية، وتبادل الأطراف الاتهامات بشأن خرق بنود الاتفاق.
وقد استطاع النظام السوري، بعد انطلاق المواجهات، فرض سيطرته على ثلاث مناطق (الغوطة الشرقية، وريف حمص، ودرعا) محسوبة ضمن مناطق ’’تخفيض التصعيد، ولم يتبق تحت سيطرة المعارضة سوى منطقة إدلب.
إلا أن بقاء منطقة إدلب على وضعها لم يكن ليرضي النظام، حيث حاول استعادتها، فتدخلت تركيا، وعُقد ’’اتفاق سوتشي في شتنبر/أيلول 2018، بهدف تثبيت وقف إطلاق النار وإقامة نقاط للمراقبة. لكن ’’اتفاق سوتشي‘‘ كان هشا، ولم يصمد بعد بدء الجيش السوري في مايو/أيار 2019 في شن هجوم على منطقة إدلب ونواحيها وسيطرته على مساحات واسعة، أدت إلى نزوح مليوني مواطن من مدنهم وقراهم وبلداتهم إلى المناطق القريبة من الحدود مع تركيا، ما دفع بالأخيرة إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة لمساندة المعارضة، وإطلاق عملية ’’درع الربيع‘‘ في أواخر شهر فبراير/شباط 2020، التي ستتوقف بعد انعقاد اجتماع موسكو في 5 مارس/آذار 2020 بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تم التوصل فيه إلى وقف إطلاق النار وتسيير دوريات للمراقبة.
ومنذ التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار عاد نحو 282 ألفا و544 مدنيا سوريا إلى منازلهم في ريفي حلب وإدلب، حسب ما أعلنته منظمة ’’منسقو الاستجابة المدنية في الشمال السوري‘‘.
وفي الوقت الذي يستعد فيه نظام الرئيس الأسد لإجراء انتخابات رئاسية العام الجاري، ومع تولي جو بايدن الرئاسة الأمريكية، ودخول منطقة الشرق الأوسط في سياسات تكتسي طابعا شكليا جديدا يطغى عليه لون ’’المصالحة‘‘ بين قطر وتركيا من جهة، والسعودية والإمارات ومصر والبحرين من جهة أخرى، فإن ملف الأزمة السورية يظل بدون حل يلوح في الأفق القريب، ويبدو أنه سيستمر على وضعه، تتقاذفه المصالح الدولية والإقليمية المعقدة.
- تدمير الدولة
بعد مرور عشر سنوات منذ انطلاق أولى شرارات الاحتجاجات السورية، يرى السوريون بلادهم في وضع صعب يكاد يشبه وضع الدولة الفاشلة.
فعلى المستوى الاجتماعي، يعاني السوريون تداعيات الحرب، بفعل موجات التهجير الجماعية التي تعرض لها المجتمع السوري، وكذلك بسبب العنف المتطرف الذي سلكه النظام لاستعادة سيطرته على الميدان وصل إلى حد نهج أسلوب سياسة التجويع، والتهجير القسري، والحصار، والاعتقال التعسفي، والتعذيب.
وحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن 6.7 مليون مواطن سوري تحولوا إلى لاجئين، معظمهم يعيشون في ظروف صعبة، تستضيف تركيا نصفهم، وتستضيف البلدان المجاورة عددا كبيرا منهم، بينما يتوزع ما تبقى منهم على بعض الدول الغربية.
وفي تقرير مشترك أصدرته كل من منظمة الرؤية العالمية “وورلد فيجن‘‘، وشركة فرونتير إيكونوميكس لتطوير النتائج الاقتصادية (أكبر شركة استشارات اقتصادية مستقلة في أوروبا) في الرابع من مارس الجاري، جاء فيه، أن التكلفة الاقتصادية للنّزاع بسوريا بعد 10 سنوات تقدّر بأكثر من 1.2 تريليون دولار أمريكي، وهي مرشحة إلى أن ترتفع لتصل إلى 1,7 ترليون دولار إضافي في سنة 2035.
وأشار التقرير إلى أن “النتائج تشير إلى أن جيلا كاملا قد ضاع في هذا الصراع، والأطفال سيتحمّلون التكلفة من خلال فقدان التعليم والصحة، مما سيمنع الكثيرين من المساعدة في تعافي البلاد والنمو الاقتصادي بمجرد انتهاء الحرب‘‘.
وقد انحدرت الليرة السورية إلى أدنى مستوى لها، وبلغت نحو 4 آلاف ليرة مقابل الدولار، قياساً إلى 50 ليرة مقابل الدولار في بداية الأزمة.
وتعرف البلاد أزمة حادة في الوقود والخبز، لاسيما خلال الأشهر الماضية، أمام عجز كبير يبديه النظام لتدبير الأزمات التي تمر بها الدولة والتي تزداد حدتها ووطأتها بسبب الحصار الاقتصادي الذي تفرضه واشنطن على سوريا.
(الفهرس)