الفهرس

بقلم: د. مصطفى أمزير

لقد كان من اللافت في الأحداث التي تلت تفجيرات بيروت، استغلال بعض المتظاهرين لفرصة الحضور الإعلامي الذي صاحب الزيارة التفقدية للرئيس الفرنسي ماكرون للبنان، لتقديم التماس “أليم‘‘ يطالب فرنسا بالعودة لاحتلال هذا البلد الذي نهبته الطبقة السياسية الانتهازية، ومزقته الحسابات الطائفية المرتبطة بالولاءات الخارجية شذر مذر.

 بطبيعة الحال نحن نفهم أن هذا الصوت “الشاذ‘‘ المُحزن إنما هو ردة فعل عاطفية تجاه مظالم هذا النموذج العفن للدولة العربية المعاصرة ، يتجاهل، بانفعال، أن هذا النموذج المرذول هو في النهاية صنيعة هذا الاستعمار نفسه الذي خرج بعض اللبنانيين الغاضبين للاستنجاد به! ففرنسا هي التي هيكلت الطائفية وحمتها، وفرنسا هي التي ولغت في دماء آبائهم حينما خرجوا لمقاومة نهبها واستعلائها.. وفرنسا، كغيرها من دول الغرب، هي التي عاثت في الأرض فسادا ولا زالت تنهب ثروات الشعوب شرقا وغربا وتدعم الاستبداد والفساد للحيلولة دون تحرر هذه الشعوب والاستفادة من خيرات أوطانها..

  والطريف أن النبش في حفريات هذه الظاهرة ” الاستنجاد بالمستعمر‘‘ داخل تاريخنا الحديث على الأقل ، يجد لها صدى في بعض مؤلفات القرنين الماضيين كما هو حال الجبرتي في كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار‘‘  الذي يروي أن المصريين، بعد بضع سنوات من رحيل الفرنسيين عن بلادهم أيام  نابليون ، بلغ بهم السخط من سوء السلطة حدا جعلهم يتوقون “جميعا‘‘ إلى أن تحتل بلدهم أي دولة أوربية أيّا كان جنسها! وقد علل الكواكبي، في كتابه الأشهر”طبائع الاستبداد‘‘ ،هذا النزوع الشاذ من قبل الشعوب نحو “تقدير‘‘ المستعمر، بطغيان المستبد الذي يجعل المرء “فاقدا حب وطنه..لا يملك شيئا ليحرص على حفظه..ولا مالا غير معرض للسلب، ولا شرفا غير معرض للإهانة‘‘. لذلك لم يكن غريبا في تاريخنا الحديث، أن تسقط أوطاننا تباعا بعد أن سقط فيها الإنسان مهانا، مهمشا..أوطان لم يكن بمقدورها إلا أن تنتج نموذجا بشريا مهزوما، منسحبا، مقلم الأظافر، مستكينا حتى وإن أخذ المستبد ماله وجلد ظهره!

    الحاكم، في الفقه السلطاني، أب راشد صالح، نقي الشرف والنسب والسلالة دائما! اختاره القدر ليكون من دون الناس حاكما أبديا بصلاحيات مطلقة للتصرف في شؤون “رعيته‘‘ كيف شاء، باعتبارهم ناقصين قُصّرا غير قادرين على أن يحكموا أنفسهم! فهو أبدا ملهم لا يخطئ؛ خذ عندك “(الحاكم بأمر الله) أحد خلفاء الفاطميين بمصر ،مثلا، فقد انبجس من حكمته مرة قانون رائد منع بموجبه الناس من أكل العنب ونبات الرشاد..! كما فرض على سكان القاهرة العمل ليلا والنوم نهارا! وفي واحدة من تجلياته العظيمة ، عاقب مجموعة من النساء المثيرات للضجة، بسلقهن في الماء المغلي حتى الموت في حمام عمومي!”.

  وهذا “كُليب‘‘،أحد أجدادنا الخالدين، قد فاض رشده حتى استحال إلى بغي عظيم، لم يطاوله فيه أحد من العالمين،فكان ، كما تروي كتب التاريخ، يحمي مواقع السحاب فلا يُرعى حماه، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له،ولا توقد مع ناره، ولم يكن بَكْرِيٌّ ولا تَغْلَبِيٌّ يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمي إلا بأمره، وكان هو الذي يُنزل القوم منازلهم ويُرَحِّلهم، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره. وقد بلغ من بغيه أنه اتخذ جرو كلب، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ الذي عوى فيه الجرو إلا بإذنه! وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يَردها أحد إلا بإذنه، وكان يحمي الصيد فيقول: صيد ناحية كذا وكذا في جِواري فلا يصيد أحد منه شيئاً…ألا ما أعظمك أيها الجد التليد!!

 أوطاننا أضحت – كما كتب أحمد مطر مرة – مسلخا كبيرا بثلاثة أبواب ، يساق من فيه بالتقسيط كل دقيقة إلى الموت؛ فإذا نجا أحد من باب أنظمة أصحاب (الفيل)، فإنه يلقى حتفه لدى باب (إسرائيل)، وإذا نجا فإنه يسلم الروح عند باب عزرائيل! والباب الأخير أصبح – في الآونة الأخيرة- حكرا على الخاصة..حتى أمسى الموت الطبيعي في أوطاننا ، أمرا مثيرا للاستغراب..وللبهجة أيضا!”… أوطان تكسر كل الأرقام القياسية في التخلف، والجهل، والاستبداد والفساد… فشلت على أعتابها كل نظريات الإصلاح والتغيير .. إن صمتَ فيها أشبعوك ذلا وإهانة .. إن فتحت فاك لتشكو أغلقوه بالرفس دما وغبارا، وإن تظاهرت، كما المتمدنين يوما، أحالوا وطنك رمادا ودمارا..‘‘ ومن وقع هذا الذي يحصل في هذه الأوطان لا يستغرب أن يلقي البعض بنفسه في أعماق البحار فرارا منها، أو يهاجر حتى لإسرائيل إمعانا في الحقد عليها، أو أن يطالب  بعودة الاحتلال بعد أن سُدت في وجهه كل مسالك التغيير ..

  من وحي هذا الوضع الفاجع كتب أحمد مطر في إحدى لافتاته راجيا مترجيا :

“لم يعد من أملٍ لنا يُرجى،بعد أن هدنا اليأس وفات الغرضُ..سواكمْ! أيها الحكّامُ بالله عليكم ْأقْرِضُوا الله لوجهِ اللهِ قَرْضاً حَسَناً ..وانقَرِضوا‘‘.

X