إن خسائر إسرائيل الاقتصادية الناتجة عن عدوانها على غزة أضحت تتضخم بشكل كبير، ومن المؤكد أن يكون لها وقع مؤثر على أداء الاقتصاد في حال استمرار الحرب أكثر من ثلاثة أشهر

 

بعد ثمانية وأربعين يوما من العدوان، وفي فجر يوم الجمعة 24 نونبر 2023، حلت الهدنة، وغزة شبه مدمرة… !!

مثّلت الساعات الأخيرة قُبيْل إعلان الهدنة لتبادل عدد من الأسرى، التي من المفترض أن تستمر أربعة أيام، جحيما من اللهب المصبوب من طرف قوات الاحتلال التي أبت تفويت أي لحظة دون إغراقٍ في القتل.

خلال شهر واحد ألقى جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، ما يعادل قنبلتين نوويتين أُلقيتا على هيروشيما.

وخلال ثمانية وأربعين يوما سقط قرابة 15 ألف شهيد، منهم 6100 طفل، و36 ألف جريح، ودُمّرت البنى التحتية بشكل شبه كامل، والمؤسسات العامة، وشبكة الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والصرف الصحي، وأُخرِجت معظم المستشفيات عن الخدمة، وهُدمت بالقصف المباشر المدارس والمنازل والمساجد والكنائس حيث تحوّل جلها إلى أكوام من الركام.

لكن إسرائيل كذلك تتألم، وليس فقط بسب قتلاها يوم السابع من أكتوبر أو خلال المعارك البرية، فهناك الخوف من الهزيمة الاستراتيجية أمام محارب أقل منها بكثير من حيث العدد والعدة، وهناك كذلك القلق من تبعات الحرب على الأداء الاقتصادي في حال استمرارها لمدة طويلة.

إن خسائر إسرائيل الاقتصادية الناتجة عن عدوانها على غزة أضحت تتضخم بشكل كبير، ومن المؤكد أن يكون لها وقع مؤثر على أداء الاقتصاد في حال استمرار الحرب أكثر من ثلاثة أشهر.

أما إذا لامست مدة الحرب مستوى السنة، فالمؤشرات تقدر أن تتراوح الخسائر ما بين 51 و60 مليار دولار، أي ما يمثل 10% من الناتج المحلي الإسرائيلي.

صحيفة “واشنطن بوسطت” الأميركية نقلت عن مسؤولين إسرائييين قولهم، إن تل أبيب تتوقع استمرار الحرب على غزة لمدة 3 أشهر فقط؛ لأن استمرارها أكثر من ذلك سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي، بسبب العدد الكبير لجنود الاحتياط.

ويبلغ  عدد جنود الاحتياط الذين استدعتهم إسرائيل 400 ألف جندي، يكلفون ميزانية دولة الاحتلال 1,3 مليار دولار شهريا. وهؤلاء الجنود، يمارسون في الأوقات العادية أنشطة مدنية تتوزع على قطاعات صناعية وزراعية وخدمية مختلفة، وانقطاعهم عن العمل يلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد، لأنهم يمثلون 15% من إجمالي القوى العاملة في إسرائيل.

وتزداد صعوبات سوق العمل في إسرائيل مع فقدان 140 ألف عامل فلسطيني وظائفهم منذ السابع من أكتوبر الماضي. هذا، بالإضافة إلى مئات الآلاف غير القادرين على الوصول إلى أماكن عملهم في مستوطنات غلاف غزة وفي الشمال على الحدود مع لبنان.

وحسب أرقام القسم الاقتصادي لاتحاد أرباب الصناعة، فإن سوق العمل في إسرائيل يتكبد أسبوعيا 1.2 مليار دولار على خلفية تعطل جهات العمل بقطاعات إنتاجية وخدمية متعددة بسبب غياب هؤلاء الجنود.

ويزداد المشهد الاقتصادي الإسرائيلي قتامة إذا ما استحضرنا  ما كتبته صحيفة ’’غلوبس‘‘ في تقرير بتاريخ 18 أكتوبر 2023، تحدثت فيه عن أهمية أراضي غلاف غزة بالنسبة للأمن الغذائي الزراعي للسوق الإسرائيلية، ونقلت من خلاله تصريحات عن عميت يفراح، رئيس اتحاد المزارعين الإسرائيليين، أوضح فيها أن 75% من الخضروات المستهلكة في إسرائيل تأتي من غلاف غزة، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب. وتُعرف هذه المنطقة باسم ’’رقعة الخضار الإسرائيلية‘‘، التي تحتوي أيضا مزارع للدواجن والماشية، إلى جانب مزارع للأسماك. واستمرار حالة الحرب يعني خروج أهم المجالات الزراعية عن العمل لقربها من العمليات العسكرية، وهو ما سيؤثر بكل تأكيد على الأمن الغذائي الإسرائيلي، وستصبح المساعدات الأمريكية الاقتصادية والمالية لإسرائيل مسألة حياة أو موت.

وفي جميع الأحوال، لن يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي تحَمُّل حرب طويلة، وبالتحديد: تحَمُّل حرب تزيد على ثلاثة أشهر، لأن ذلك سيؤدي إلى تراجع حادٍّ للناتج المحلي الخام ومزيد من الاعتماد على القروض المالية واضطراب في ميزان المدفوعات وتدهور لعملة الشيكل.

قد تسعى حكومة بنيامين نتنياهو من خلال الهدنة إلى فرض الأمر الواقع والتمركز في بعض النقاط الجغرافية في شمال غزة، وإظهار ذلك على أنه إنجاز كبير؛ وهو ما يبدو واضحا في إقدام جيش الاحتلال على منع أهل الشمال من العودة إلى منازلهم. لكن ذلك لن يدوم لمدة طويلة، وستضطر قوات الاحتلال  إلى مغادرة قطاع غزة كليا، لأن مجرد التموضع في أي نقطة من نقاطه سيعني الدخول في مأزق جديد كما سيعني تمديد أجل الحرب وربما انفتاح جغرافيتها إلى ما هو أبعد، وهو ما لا يتحمله الاقتصاد الإسرائيلي ولا النسيج الاجتماعي والسياسي، ولا حتى الظروف الدولية القائمة بسبب انشغال الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الحلفاء الغربيين بالملفين الروسي والصيني.

وبالرغم من كل الخسائر المادية والبشرية التي خلّفها العدوان، يمكن القول إن حركة المقاومة الإسلامية ’’حماس‘‘-وهي الطرف الأضعف عسكريا-  خرجت منتصرة واستطاعت فرض شروطها، وفوّتت على كيان الاحتلال إنجاز أهدافه التي أعلنها منذ بداية العدوان وواصل التأكيد عليها، حيث ظل يرفض أي هدنة أو توقف للقتال قبل عودة المحتجزين والقضاء على حركة ’’حماس‘‘.

ووفق ما أكده أبو عبيدة المتحدث باسم الجناح العسكري للحركة، فإن ما وافقت عليه إسرائيل من هدنة هو نفسه ما عرضته الحركة قبل ثلاثة أسابيع،

ستلجأ ’’حماس‘‘، خلال الهدنة المعلنة، إلى تعزيز تموقعها، وترتيب انتشارها بشكل أفضل، والاستعداد من جديد. بينما سيلتقط أهل غزة أنفاسهم، ويتسلمون المساعدات الإنسانية، ولا سيما ما يتعلق منها بالدواء والوقود. والأهم من ذلك، أن الفلسطينيين سيتمكنون من عرض حصيلة المأساة الإنسانية التي تسبب فيها العدوان، وسيرى العالم الوجه المخيف لكيان الاحتلال من خلال اطلاعه على حجم الدمار الذي أصاب قطاع غزة والأسلوب الحقيقي للجيش الإسرائيلي الذي طالما اسثمرت الدعاية الإسرائيلية لإخفاء معالمه اللاإنسانية…

إن ضريبة التحرير دائما ما تكون مكلفة، ولا بد لأصحابها من تأثيراتها، وتزداد الكلفة كلما حظي المحتل بدعم من طرف حلفاء أقوياء، مثلما فعل ويفعل الغرب بقيادة أمريكا مع حليفته إسرائيل التي  منحها الأسباب والموارد والضوء الأخضر لتنفيذ عدوانها وارتكاب جرائمها .. لكن في النهاية، ينتصر أصحاب القضية بإرادتهم على عدد وعدة المحتل ومعاونيه…

إسرائيل انهزمت أمنيا يوم السابع من أكتوبر، وتعرض وجودها لأسئلة محرجة، ثم بعد هذا التاريخ انهزمت ميدانيا، وانهزمت سياسيا وأخلاقيا، ونُسفت روايتها الأمنية التي طالما ادّعتها أمام العالم، كما نُسف دور الضحية الذي دائما ما ما كانت تحتمي به للهروب من أي مساءلة .. وخلال العدوان تجرأت الكثير من الأصوات الحرة ودعت إلى معاقبة إسرائيل والوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني، وهي دعوات لم تكن متصوَّرة قبل السابع من أكتوبر، الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى موقعها المركزي بعدما كانت قاب قوسين أو أدنى من الاندثار.

غزة، بمقاومتها وصمودها ودمها، أسقطت الأقنعة، وسطّرت بداية تاريخ جديد في الصراع ضد الاحتلال الصهيوني.

(الفهرس/وكالات)

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني

 

X