الفهرس

الكاتب: والتر ميغنولو

ترجمة: ذ. البشير عبد السلام**   

أعاد رئيس البرازيل جايير بولسونارو مؤخرا ترديد إحدى عباراته المشهورة التي يدعي فيها أن: “الحرية أولى من الحياة‘‘؛ هذه العبارة التي قالها على غرار الأساليب المتداولة في تويتر غدت شائعة اليوم، وهي لا تسعى فقط لتثبيط العقل عن التفكير، بل إنها تمتلك سحر الحقائق التي لا تضع شيئا بين قوسين، فتمنع بذلك فعل النقد ليبقى لنا فقط أن نجيب حيالها بــ “نعم أو لا‘‘.. لكن دعونا نستكشف معالم الحرية والحياة.    

إن الحرية مبدأ عالمي مجرد، بينما تشير الحياة إلى الطاقة المتدفقة للكون، وإلى جانب باقي الكائنات الحية فإن حياة النوع الإنساني هي جزء من هذه الطاقة ونتيجة لها، وهو ما يعني بشكل ما استحالة مقابلة الحياة بالحرية، ومع ذلك توجد حالات تكون فيها العلاقة عكسية. وقد شهد تاريخ البرازيل حالات عديدة لرجال ونساء أفارقة تم استعبادهم فهربوا من الضيعات وشكّلوا مجتمعات الكيلومبوس Quilombos والبالينكيس Palenquis المنعزلة والمعروفة بأمريكا اللاتينية، فيما لم يهرب الكثيرون وفضلوا إنهاء حياتهم رغم أن الفِرار من الضيعات كان أمرا ممكنا (يصعب الآن الفرار من الدولة)، ولذلك يمكن القول إن الحرية حينئذ كانت أهم من الحياة .    

إن بولسونارو يمتلك فكرة مغايرة عن الحرية، ذلك أن عبارته السالفة تعني في حقيقتها أن “الاقتصاد أهم من الحياة‘‘، وهو اعتقاد موجود لدى الكثيرين، لكن لماذا يا ترى يجب أن يكون الاقتصاد هو أفق الحياة عوض أن تكون الحياة هي أفق الاقتصاد ؟!       

في الحالة الأولى هناك تخوف من أن يتعطّل الاقتصاد وينهار بسبب السعي للحفاظ على الحياة، رغم أن الاقتصاد في الحقيقة لا يمكن أن يتوقف، فوحده المـوت من يقـدر علـى توقيفـه، وما يحـدث الآن هـو أن كوفيـد 19 جعـل الاقتصـاد يكتشـف معنـاه الأصيـل والمتمثـل فـي إدارة النـدرة ’’Oyko-nomos‘‘ أو تنظيم العيش المشترك، هذا الأويكوس اليوناني كان يعادل وما يزال الأيلو Ayllu في جبال الأنديز.     

كل هذا يقودنا نحو الخطوة التي يصعب علينا اتخاذها والمتمثلة في فك ارتباط الاقتصاد بالرأسمالية، فصحيح أن الرأسمالية تشكّل نوعا من الاقتصاد، لكنها تعني تحديدا اقتصاد الموت الذي يجعل الحياة في خدمة الاقتصاد، ولو عكسنا هذه المعادلة وفكّرنا أن نجعل الاقتصاد في خدمة الحياة فإننا سنكتشف الاقتصاد المشترك الذي يُنتج العيش الكريم ويخلق الاستمتاع بالحياة في كمالها، وعلى عكس ذلك فإن اقتصاد المراكمة والاستغلال هو الذي قاد الكوكب نحو طريق مسدود على صعيد المناخ والأوبئة والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والعيش الذليل. بهذا المعنى فإن الحرية التي يتغنى بها بولسونارو –ومعه آخرون– هي الحرية من أجل العمل ولأجل حياةٍ في خدمة الاقتصاد، إذ تتمحور فلسفته –إن جاز لنا أن نسميها كذلك– حول تعزيز العيش من أجل العمل، وهذا بالتحديد هو اقتصاد الاستغلال والمراكمة، في حين يجسد الاقتصاد التشاركي أي اقتصاد ’’الأويكوس والأيلو‘‘ اقتصاد العيش الكريم حيث يعمل الناس ليعيشوا الحياة الكريمة، لا حياة العبودية.    

نعم إن الحرية والمساواة والإخاء هي ركائز بناء الدولة-الوطن (الحديثة، العلمانية، البورجوازية)، وتِلكم أيضا هي ركائز الفكر الليبرالي، لكن باعتبارها مفاهيم مجردة أضيفت مع التوسع الاستعماري الذي قادته أوربا الغربية بدايةً والولايات المتحدة لاحقا، فإنه لم يتم الاكتفاء بعولمة هذه المفاهيم فحسب، بل تم إضفاء صفة العالمية عليها أيضا، وهكذا كانت هذه العالمية المجردة مانعا لفتح النقاش حول معاني الحرية والديموقراطية والاقتصاد.    

إن الأفق الذي تُميّزه عوالم مجردة (الحرية، الاقتصاد، الديموقراطية) تقوم بتبرير وشرعنة سلوكيات حكومية وشركاتية وإعلامية لفرض حقائق لا تقبل النقاش؛ يقوم بإحلال فكرة “العيش بشكل أفضل‘‘ محل فكرة “العيش الكريم‘‘، لهذا نحن بحاجة إلى تهيئة الظروف للعيش في تناغم وتكامل، ولذلك نحتاج إلى توجهات تقوم بها الدولة لتعزيز العيش الكريم إلى جانب بناء مجتمع سياسي ناقد –بالمعنى الكانطي– للدولة وليس معاديا لها؛ مجتمعٌ يشتغل معها لأجل الصالح العام، كما أننا لسنا بحاجة إلى دولة ذكورية ولا أبوية1 بل نحن بحاجة إلى إيجاد صيغة لدولة ترعى الصالح العام وتكون على ارتباط بكل شيء حي، أي إلى دولة تضمن برفقة المجتمع السياسي انسجاما اجتماعيا (بين الناس) يكمّل الانسجام المشترك (مع باقي الأحياء ومع الطبيعة) ولأجل ذلك يجب أن نتحرر من النظر للطبيعة كمجرد موارد طبيعية والنظر للناس باعتبارهم موارد بشرية وتخيُّل التنمية الاقتصادية كمصدر للسعادة.    

هذا، ويبدو أن الأمر مختلف مع أفق العيش الكريم، فلا الحرية ولا الديموقراطية ولا التنمية هي أهداف يجب تحقيقها، ذلك أننا إذا جعلنا التناغم الاجتماعي والعيش المشترك نصب أعيننا فلا حاجة لنا لأن نأخذ بعين الاعتبار الفكرة التي تنظر للديموقراطية والحرية كقيم عالمية بالضرورة، بل هناك عدة طرق أخرى لتحقيق تلك الأهداف، فقط يجب أن نقلِب هذا المنطق كي يصبح الهدف متمثلا في العيش الكريم يوميا وليس منصبا على عوالم مجردة “الحرية، الديموقراطية، التقدم‘‘.     

ويُروى أنهم سألوا الماهاتما غاندي عن رأيه في الحضارة فأجاب بقليل من الحماسة أنه يعتقد أنها فكرة جيدة، لذلك فالحرية والتقدم والديموقراطية -كما الحضارة- كانت بدورها أفكارا جيدة تحولت إلى مبررات للإمبريالية ومسوّغات للرقابة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وعلى هذا الأساس نرى اقتصاد الموت يتمدد، وفيه تكون الدولة الأبوية عالقة بين شكلها النيوليبرالي الذي يطلق اليد الطولى للكيانات المالية والشركات الكبرى، وبين الأصولية العلمانية القومية، وبهذا الشكل فحتى الدولة الاشتراكية ستكون مجرد وجه آخر للأبوية بسبب تبنيها لنفس المنطق مع محتوى مغاير. لذلك فإن المسألة اليوم تتعلق بنزع الاستعمار إن شئنا قول ذلك، وفي ذلك رفض للصيغتين معا، وبالمقابل نرى الحاجة لدولة رعاية ذات طابع أمومي تكون متعاونة مع المجتمع السياسي والمجتمع المالي والشركاتي وأيضا المجتمع الإعلامي الذي يفترض أن يمتلك حسّاً نقدياً غير عدائي ويسعى لاستعادة جمالية العيش والتفكير، بمعنى أن الأمر سيتعلق بدولة رَحِمِيَّة2  Estado matrístico بتعبير هومبيرتو ماتورانا وخيمينا دافيلا.    

لقد أبان التعامل مع العبيد الأفارقة منذ القرن السادس عشر عن أخلاقية مريبة تجاه حيواتٍ يمكن التخلص منها، كما أثر نمط إنتاج السلع وما يخلقه من أرباح على الحياة الإنسانية؛ وهو نمط ما زال يتمدد في حاضرنا، حتى اختلطت الحيوات التي يمكن التخلص منها من منظور اقتصادي بالحيوات العارية من المنظور السياسي، ويمكننا القول إن الثورة الصناعية والتكنولوجية قد حولت حياة الكوكب إلى حياة يمكن التخلص منها.    

هكذا إذن فإن مفاهيم التقدم والحرية والديموقراطية وإن كانت تحيل على عوالم كبيرة، لكنها تبقى عوالم مجردة، أخضعت الحياة لخدمتها وجعلتنا ننسى أفق العيش بتناغم وكمالية، ولم يعد هذا الأفق اليوم قابلا للمساومة، فالحرية والاقتصاد والدولة يجب أن يكونوا جميعا في خدمة العيش الكريم وليس العكس.

**البشير عبد السلام: كاتب ومترجم من المغرب 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 إن مفهوم الأبوية Paternalism أوسع من مفهوم الذكورية وإن كان يتضمن كثيرا من دلالة هذا الأخير، ذلك أنه يحيل إلى مجموعة من السلوكات التي تعزى عادة إلى الأب ولكنها لا تنحصر داخل مجال الأسرة بل تتمدد إلى مجالات أخرى، أي أنها طريقة في ممارسة سلطة الأب في علاقات العمل، الصداقة والسياسة، حيث يكون الحاكم الأبوي شخصا يتعامل مع شعبه وكأنهم أطفال. [المترجم]

 لقد آثرتُ استعمال مفردة الرحِمِيَّة لترجمة مصطلح Matriztica الذي يحيل بدوره إلى Matriz أي الرحم في اللغة الإسبانية، وهو مصطلح أبدعه كل من المفكران التشيليان Maturano Humberto وXimena Dávila، كمقابل للأبوية، لكنه لا يحيل أيضا على الأمومية لما يمكن أن تتضمنه الكلمة من سلطة للمرأة على الرجل، ذلك أنه مصطلح يهرب من أي دلالة تحيل على السلطة والمنافسة والصراع، ويضع التعاون والتكامل والعناية بالبعض محورا للاجتماع بين النوعين وكفلسفة تجاه الطبيعة. [المترجم]

X