أحيانا، تفرض الجغرافيا واقعها على مسرح العلاقات الدولية، فتستجيب الدول إلى هذا الواقع حتى وإن كان لا يسير وفق بعض أوجه إرادتها.

من أمثلة ذلك، حالة المغرب وإسبانيا. فالجغرافيا ها هنا فرضت نوعا من المصالح المتبادلة وواقعا اقتصاديا لا يمكن تجاوزهما.

لذلك، فإن العلاقات بين هذين البلدين، حتى وإن بلغت أعلى درجات التوتر، فإنها تظل مستمرة، ولا يلجأ أحد الطرفين  إلى التفكير في القطيعة النهائية مع الطرف الآخر، لأنه يعلم سلفا أنه محتوم عليهما التفاهم لأجل مصلحة شعبيهما.

هكذا كانت دائما العلاقات المغربية الإسبانية، وعلى هذا النحو سوف تستمر. ولذلك رأينا خلال الأزمة الأخيرة بين البلدين، أنه بالرغم من دخول العلاقة بين الطرفين مستوى معقدا، إلا أن الاتصالات ظلت قائمة، وظلّ التعاون في بعض المجالات، لا سيما الأمني، ساريا .. فالغاية التي يجري كل طرف وراءها تقتضي تحسين المواقع على مستوى العلاقة الثنائية وليس قطعها؛ لأن الجميع يعي استحالة ذلك.

بهذا التوضيح إذن، يمكننا فهم بوادر الانفراج التي أخذت تلوح في الأفق لتعلن عن قرب تفيكك بعض عقد الأزمة التي أرخت بظلالها على العلاقات المغربية الإسبانية منذ إغلاق معبر سبتة قبيل تفشي وباء كورونا مرورا بالمشكل الذي خلّفه دخول زعيم البوليساريو إبراهيم غالي لإسبانيا بهوية منتحلة في 21 من شهر أبريل/نيسان الماضي وما استتبع ذلك من تدفق سيل من المهاجرين المغاربة نحو سبتة.

وقد ظهرت الإشارات من طرف إسبانيا الدالة على الرغبة في عودة العلاقات مع المغرب إلى سابق عهدها في عدة مناسبات؛ أبرزها، التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإسباني ’’خوسي مانويل ألباريث‘‘ عند تسلمه للحقيبة الوزارية للشؤون الخارجية في 12 يوليو/تموز الماضي، حيث بعث برسالة فيها كثير من اللباقة الدبلوماسية تجاه المغرب، قائلا: ’’نحن بلد ينتمي إلى البحر المتوسط. مع جيراننا الجنوبيين، علينا تقوية العلاقات بشكل أكبر، خاصة مع المغرب، جارنا وصديقنا الكبير في الجنوب‘‘.

وفي التاسع من شهر أغسطس/آب الماضي، توقعت مندوبة الحكومة الإسبانية في سبتة، ’’سالفادورا ماطيوس‘‘، تطور العلاقات المغربية إلإسبانية إلى الأفضل، وعزّز هذا التوقُّعَ، التفاهمُ المغربي الإسباني بشأن إعادة القاصرين المغاربة إلى بلدهم.

واستمرت الإشارات الإيجابية إلى أن ألقى الملك محمد السادس خطابه بمناسبة الذكرى الـ 68 لـ”ثورة الملك والشعب”، تطرق فيه لموضوع الأزمة بين إسبانيا والمغرب، قائلا: ’’إننا نتطلع، بكل صدق وتفاؤل لمواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية ورئيسها بيدرو سانشيز، من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين، على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات‘‘. موضّحا، أنه تمّ الاشتغال ’’مع الطرف الإسباني، بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية‘‘، وأنه تابع شخصيا، وبشكل مباشر، سير الحوار، وتطور المفاوضات.

وحسب مدلول نص الخطاب الملكي، فإن الرباط تريد تطوير علاقاتها مع إسبانيا نحو الأفضل، لكنها عازمة أن يتم ذلك وفق أسس ومحددات تقوم على التوازن وتضمن عدم المساس بالمصالح العليا للمغرب.

وقد استقبلت وسائل الإعلام الإسبانية خطابَ الملك المغربي بكثير من الاهتمام، وسلطت بعض القنوات الرئيسية الضوء على شقه المتعلق بالعلاقات المغربية الإسبانية، وتعاطت معه بإيجابية، لكنها أبدت في نفس الوقت نزعة من الشك والتخوف مع نوع من التحفظ  إلى أن تكتمل الصورة في الأيام القادمة.

والحقيقة، أن الأزمة بين الرباط ومدريد ليست وليدة اليوم أو أنها ناشئة عن أحداث الأمس القريب .. فدخول غالي إلى إسبانيا بهوية منتحلة، وعدم تنسيق مدريد مع الرباط في الأمر، وما استتبع ذلك من هجرة جماعية إلى سبتة ومن تصريحات وردود أفعال بين الطرف المغربي والإسباني، كل ذلك كان بمثابة عوارض للمشكل الرئيس.

والمشكل الرئيس تشكله عدة ملفات، أهمها وأخطرها، ملف الصحراء، تليه ملفات أخرى، كملف سبتة ومليلية والجزر المغربية التي تسيطر عليها إسبانيا، وملف التهريب، وملف الهجرة، وملف الحدود البحرية الأطلسية…

وقد عبّر عن ذلك وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، في تصريح قال فيه إن  أصل الأزمة مع إسبانيا ليس ملف إبراهيم غالي، بل انهيار الثقة بين البلدين والمواقف العدائية لمدريد بشأن ملف الصحراء.

والإشكال الأساسي بالنسبة للمغرب، يتمثل في عدم تموقع إسبانيا بشكل واضح فيما يتعلق بملف الصحراء. فالمغرب يرغب في أن تحذو إسبانيا حذو الدول التي اعترفت بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأن لا تظل في المنطقة الرمادية المتراوحة بين ’’نعم‘‘ و ’’لا‘‘، أي ’نعم‘‘ للمبادرة المغربية بشأن الحكم الذاتي مع التأكيد في آن واحد على مبدأ ’’الحق في تقرير المصير‘‘.

هذا الموقف بالذات، موقف ’’نعم‘‘ و ’’لا‘‘، هو الذي لم يعد يقبله المغرب من طرف إسبانيا، لأنه يرى أنه لا يمكن أن تُبْنى على أرضيته شراكات اقتصادية وسياسية وأمنية قوية ذات بعد استراتيجي.

وبالتالي من الصعب الجزم بأن الأزمة بين المغرب وإسبانيا آيلة نحو نهايتها وتفكيك كل عقدها خلال هذا الظرف الوجيز من الزمن الذي جرت فيه الاتصالات بين الطرفين.

وربما يلجأ الطرفان إلى تدبير الأزمة وإدارة ملفاتها بالتدريج للخروج من منطقة النزاع إلى منطقة الحوار والبحث عن الحلول والبدائل والمصالح المشتركة التي تقتضيها ضرورات ’’الجغرافيا‘‘ كماسبق أن أشرنا.

وهذا الانتقال من منطقة إلى أخرى يجعل كل طرف يعول على الأوراق التي في جعبته. فإسبانيا، تلوح بورقة انتمائها إلى الاتحاد الأوروبي والناتو. في المقابل، يعي المغرب أن وضعه الدولي قد تغير، وبالتالي، لا مانع أمامه كي يرفع من سقف مطالبه؛ ويندرج موقف المغرب هذا في ظل التحالفات الجديدة التي دخل فيها، وفي مقدمتها التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد إبرام الطرفين اتفاقية التعاون العسكري في أكتوبر الماضي، وما تلا ذلك من اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء، وإعلان الرباط عن تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، بالموازاة مع إقدام عدد مهم من الدول على فتح هيئاتها الدبلومسية في الأقاليم الصحراوية، وفي مقدمتها الدول الخليجية. هذا، فضلا عن أن الرباط، نشطت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في تنويع علاقاتها الدولية وفتح قنوات اقتصادية وسياسية مع الدول الإفريقية والمملكة المتحدة وروسيا والصين.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X