لماذا ترفض الدول العربية الزيادة في إنتاج النفط والغاز؟ وهل هذا القرار سيادي أم وظيفي؟

بقلم: د. مصطفى أمزير

من اللافت عقب كل زيارة لمسؤولين أمريكيين أو أوروبيين لدولنا المصدرة للنفط والغاز هذه الأيام، أن تُستتبع بتصريح غير معهود في لغة الديبلوماسية العربية يعتذر مرة عن عدم القدرة على الزيادة في الإنتاج كما تطلب الأسواق الأوروبية لتلبية حاجاتها الطارئة من تداعيات حرب أوكرانيا، كما أعلنت الجزائر وقطر. أو يرفض فكرة زيادة إنتاج النفط لخفض ثمنه في الأسواق الدولية، المتراوح  هذه الأيام بين 115 إلى 120 دولارا للبرميل (عقود نفط برنت) ، كما أوضحت السعودية والإمارات. فهل هذه المواقف، المتنافية مع اللغة المطواعة التي عهدناها في التصريحات العربية، “نخوة وطنية” جديدة تجتاح المنطقة؟ أم أنها أدوار وظيفية تؤديها داخل تجاذبات الصراع الدولي بين الكبار؟

للإجابة على هذا السؤال من اللائق، في نظري، استحضار معطيين: الأول تاريخي، والثاني واقعي فعلي. أما المعطى التاريخي فيعود بنا إلى سنة 1973، إلى لقطة شبيهة حينما أعلن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز الامتناع عن تمويل الأسواق الغربية بنفط السعودية في خطوة وصفت “بالشهمة” ضدا على هذا الغرب الداعم للصهاينة إبان حرب أكتوبر. غير أن المطلع على «برقيات كيسينجر» التي ضمتها «مكتبة ويكيليكس العامة»، بعد أن أفرجت عنها  الإدارة الأمريكية سنة 2013م، يكتشف شيئا آخر تماما؛ فهذه البرقيات السرية  أوضحت أن الرغبة في رفع أسعار البترول داخل الأسواق الدولية آنذاك، كانت حاجة أمريكية ملحة لشركاتها قبل أن تندلع حرب أكتوبر بشهور عدة، ضمن تصور اقتصادي عملت الإدارة الأمريكية على تبنيه فيما سُمي بخطة “إعادة تدوير الدولار”؛ وهي الخطة التي كانت تقضي بالدفع نحو رفع أسعار البترول في الأسواق العالمية مدخلا لتنمية رؤوس أموال شركات النفط الأمريكية الكبرى العاملة في الخليج، لاستثمار الأرباح في مشاريع تنقيب ضخمة جديدة في العالم إلى جانب ما يمكن أن ينتج عن هذه الزيادة من توفير هائل للسيولة النقدية للاقتصاد الأمريكي مستفيدا من ارتفاع منسوب الأرصدة الخليجية المنتظرة في البنوك الأمريكية. فكانت حرب أكتوبر الفرصة الذهبية التي استغلتها الإدارة الأمريكية للدفع بـ”حلفائها” في أوبك لتفعيل هذه الرغبة، عبر سيناريو “بطولي” مشبع ببعد قومي وديني، تولت السعودية، باقتراح من الثعلب “كيسنجر”، الترويج لحيثياته.

 أردت بهذا الاستدعاء التاريخي التنبيه إلى أن الظاهر المعلن في التصريح السياسي لا يكون، في العادة، هو الغابر المستور كما يشير إلى ذلك مايلز كوبلاند في كتابه الشهير “لعبة الأمم”: “من السذاجة الخاطئة بمكان أن يُفسر أي تصريح رسمي حول السياسة الخارجية بصفاء النية وخلوص السريرة، فالمناورة شرط أساسي لأي زعيم سياسي في اللعبة، فهو يُظهر ما لا يبطن، ويقول شيئا ويعني به شيئا آخر”. وبناء عليه يحق لنا أن نتساءل: لماذا ترفض الدول العربية الزيادة في إنتاج النفط والغاز؟ وهل هذا القرار سيادي أم وظيفي؟

من اللازم أولا الاتفاق على أن دول الخليج، كمعظم البلاد العربية، محميات أمريكية بالوضوح الصارخ عسكريا وسياسيا، ومن الوهم، بناء على هذا المُعطى، مجرد الاشتباه فقط في أن هذه الدول قادرة على الوقوف ضد أي طلب أمريكي مهما بدا تافها، فما بالك بالقرارات الاستراتيجية كما هو شأن أسعار النفط أو الغاز .. فدول الخليج لا تقدر حتى حماية صناديقها السيادية من النهب الأمريكي المباشر، وهي إلى الآن تؤدي للجيش الأمريكي نفقات تواجده في الخليج من ’’ورق الحمام إلى أغلى قنينة ويسكي‘‘. فكيف بمن هو حاله بهذه الوضعية أن يجرؤ على الوقوف في وجه السياسة الأمريكية إن كانت هذه خياراتها الفعلية؟

 الواقع أن لغة التمنع العربي التي ظهرت مؤخرا، يجب أن تربط بالسياق الدولي العام عبر السؤال التالي: من المستفيد ومن المتضرر من بقاء أسعار النفط مرتفعة وسيولة الغاز شحيحة؟ وما علاقة كل ذلك بما يجري بأوكرانيا؟

 حتى نفهم أفضل علينا استحضار المعطيات التالية: تستورد الصين من منطقة الخليج ما يعادل 60 في المائة من حاجياتها من النفط، فيما لا تستورد أمريكا لتدعيم احتياطها الاستراتيجي إلا 3 في المائة. ارتفاع ثمن البرميل لما يفوق 100 دولار يؤثر طبيعيا على كلفة الإنتاج الصناعي الصيني والأوروبي بما يُضعف قدراتهما التنافسية. في الوقت الذي ستزداد فيه أرباح الشركات الأمريكية التي تستخرج نفط الخليج. باستنتاج بسيط يبدو امتناع السعودية والإمارات عن رفع الإنتاج هو، في الواقع والحقيقة، موقف يصب في مصلحة أمريكا، فهو قرارها المرحلي للضغط على الصين من جهة وعلى أوروبا من جهة أخرى، خاصة وأن رهانها الاستراتيجي الآن هو تفكيك التحالف الناشئ بين روسيا والصين من ناحية، وإعادة الوصاية على أوروبا من ناحية ثانية. الإدارة الأمريكية تعتقد بأن لديها مجموعة من الأوراق الضاغطة المؤلمة التي بإمكانها المساعدة على لي ذراع الطرفين في هذا الاتجاه: أولها أسعار النفط، وثانيها تسخين ملفات الانفصال وحقوق الإنسان بالنسبة للصين، وثالثها تهديدهما في تجارتهما البينية.

 إن أمريكا تنظر إلى أوروبا بعين الوصي الساخط على مكفوله الراشد، الذي يحاول البحث عن مصالحه خارج بيت الطاعة؛ علينا استحضار الأرقام التالية لمعرفة مقدار الخطر الذي تستشعره الولايات المتحدة من تنامي التعاون الاقتصادي بين الصين وأوروبا، فالصين تعتبر الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي. وتميل كفة هذا التبادل البيني لصالح الصين حيث ارتفع عجز أوربا من 164.7 مليار يورو عام 2019 إلى 181 مليار العام الماضي. يجري هذا في الوقت الذي أظهرت فيه بيانات حديثة أن الصادرات الصينية إلى الخارج شهدت ارتفاعا قياسيا في 2021، مقابل عجز قياسي في الميزان التجاري للولايات المتحدة، بل إن الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة ارتفع في الأشهر العشرة الأخيرة إلى 2.08 تريليون يوان (325 مليار دولار)، مقابل 1.75 تريليون يوان في العام الماضي…

ما أردنا الوصول إليه من خلال هذه الأرقام هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى تحولا قريبا في الموقف الدولي هو الآن في إطار التشكل، والقوى الاقتصادية الكبرى ستكون لها الكلمة الأولى في هيكلته القادمة، فالصين الآن في طريقها إلى أن تصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم قبل عام 2030 على صعيد إجمالي الناتج المحلي. فيما التقدم التكنولوجي الذي حققته هذه الدولة، بمعية بلدان شرق آسيا عموما، في مجال الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والفضاء الإلكتروني يمنح لها الوسائل الفاعلة للتفوق، وأوروبا تدرك جيدا أن مستقبلها هو مع الصين وليس مع الولايات المتحدة الأمريكية لذلك فهي تحاول أن تخط لنفسها مسارا استراتيجيا بعيدا عن الهيمنة الأمريكية.

 داخل هذا السياق المقلق يمكن قراءة مزاج أمريكا اليوم التي وجدت في الحرب الأوكرانية فرصتها التاريخية للتشبث بسلطة الريادة أطول مدة ممكنة  قبل انهيارها الحتمي القادم، لذلك فهي تسعى إلى إطالة أمد الحرب أوسع مدى ممكن حتى تتمكن من جهة فرض عقوبات على المتعاملين مع روسيا، عينها على الصين طبعا لتفكيك تحالفها العظيم الزاحف بين طريق الحرير والتجمع الأوراسي من جهة، وإعادة أوربا إلى بيت الطاعة ولو بالقوة من جهة ثانية، عبر إضعافها بالزحف على مناطق نفوذها التاريخي في إفريقيا، أو من خلال محاصرة أوروبا في موضوع النفط والغاز بدفع أنظمتها الوظيفية إلى التمنع عن الاستجابة الفورية لطلباتها .. لتُبقى الحضن الأمريكي بوابة وحيدة لأوروبا لإنقاذ نفسها من الأزمات القادمة، ولسان حاله “ننجو جميعا أو نغرق جميعا” .. داخل هذا السياق، في نظري، تصح قراءة المواقف العربية الأخيرة في موضوع النفط والغاز، وفي ضوئها فقط كذلك نفهم التصعيد العسكري الحوثي على مصافي أرامكو السعودية…

 لقراءة المزيد من مقالات د. مصطفى أمزير

X