تنجذب السعودية نحو الصين، وتنجذب الصين نحو السعودية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا الانجذاب المتبادل يحدث بسبب حاجة الأطراف إلى بعضها البعض

كان هناك اعتقاد سائد بأن المملكة العربية السعودية لن تستطيع الخروج من تحت المظلة الأمريكية مهما كانت الظروف. وإذا كان هذا الاعتقاد يخالف مبادئ السياسة الدولية التي تقودها المتغيرات والمصالح ولا يوجد فيها الثابت المطلق، فإن ما يجري مؤخرا على مستوى العلاقات السعودية الأمريكية يؤكد بأن بوصلة الرياض أخذت فعلا تبتعد عن الغرب وتتجه شرقا من خلال حركات لافتة ومفاجئة، في سياق دولي خاص تطبعه الحرب في أوكرانيا، والصراع الدائر بين روسيا والصين من جهة، والغرب بقيادة واشنطن من جهة أخرى.

فالسعودية تحاول إيجاد موطئ قدم في المشهد الدولي يمكنها من الاستفادة من المستجدات وبناء علاقات دولية متوازنة وتنويع شركائها الاقتصاديين خدمة لمشروعها المعروف باسم ’’رؤية 2030‘‘، وعزما على إحداث تغييرات في بنيات اقتصاد الدولة بهدف التحول من دولة نفطية إلى دولة ذات اقتصاد متنوع الموارد.

إن التوتر الحاصل على مستوى العلاقة بين الرياض وواشنطن ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج ممارسات أمريكية سلبية تجاه المملكة بدأت مع مجيء إدارة الرئيس  باراك أوباما (2009-2017)، وازدادت تأزما مع الرئيس الحالي للولايات المتحدة جو بايدن الذي أعلن أثناء حملته الانتخابية بجعل السعودية دولة منبوذة.

والمعادلة القائمة على أساس ’’الأمن مقابل النفط‘‘ التي لطالما وجّهت العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن، هذه المعادلة تكاد تصبح اليوم مفرغة من عناصرها وهي على وشك الانهيار الكامل.

فواشنطن لم تف بالتزامها فيما يخص أمن الخليج وأمن السعودية على وجه الخصوص عندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية لهجوم بطائرات مُسيّرة في مارس 2022 من طرف الحوثيين المدعمين من إيران، وقد تسبب ذلك في انخفاض إنتاج السعودية من النفط بنحو 5 ملايين و700 ألف برميل يوميا، أي ما يعادل أكثر من نصف الإنتاج. حينها، وُصف الموقف الأمريكي بالمتخاذل والذي لا يمكن التعويل عليه من طرف الحلفاء في الخليج لحماية مصالحهم أو تشكيل ردع لأي تهديد إيراني محتمل.

وفي الخامس من أكتوبر 2022، أعلنت “أوبك+” خفض إنتاج النفط الخام بمقدار مليوني برميل يوميا بداية من نوفمبر من نفس السنة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط بنحو 10%. هذا الموقف المدعم من طرف السعودية أغضب الإدارة الأمريكية واعتبرته يصب في مصلحة روسيا وحربها في أوكرانيا، وعلى إثره، صرح بايدن في لقاء مع وكالة ’’سي إن إن‘‘ الأمريكية أنه ستكون هناك بعض العواقب لما فعله السعوديون مع روسيا وأن ’’الوقت قد حان  كي تعيد واشنطن التفكير في علاقتها بالمملكة‘‘.

في نوفمبر 2022، قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد تعيينه رئيسا للوزراء بجولة أسيوية استغل خلالها حضوره في إندونسيا في قمة العشرين وزيارته لكوريا الجنوبية ثم حضوره في تايلاند قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) حيث وقع اتفاقيات مهمة بمليارات الدولارات بهدف تنويع شراكات المملكة وتوطين عدد من الصناعات من ضمنها الصناعات العسكرية وتفيعل الرؤية الاقتصادية الطموحة 2030.

وفي السابع من نوفمبر 2022، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ الرياض لحضور القمة الصينية العربية الأولى من نوعها والتي جمعته بقادة العرب ودول الخليج. وخلال الزيارة وقّعت بكين والرياض على اتفاق الشراكة الاستراتيجية الذي من شأنه  أن يحدث نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين.

وقد استطاعت الصين إحداث اختراق استثنائي في منطقة الشرق الأوسط بإشرافها على الاتفاق السعودي الإيراني الذي أُعلن عنه من بكين في 10 مارس 2023. وأهمية الاتفاق تكمن في أنه لا يقتصر على إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية، إنما يتعدى ذلك ليطال المجالات الأمنية والاقتصادية، ومن شأنه أن يضع حلا مقبولا للأزمة اليمنية.

من جهة أخرى، تقدمت المملكة السعودية بطلب للانضمام إلى منظمة ’’بريكس+‘‘، وذلك على غرار كل من إيران والجزائر ومصر وسوريا. كما أعلنت في 29 من شهر مارس 2023 انضمامها إلى منظمة شنغهاي بصفة شريك حوار كتمهيد للحصول على العضوية الكاملة. وقد جاء قرار الموافقة على الانضمام بعد ساعات من مكالمة دارت بين  شي جين بينغ ومحمد بن سلمان وبعد يومين من توقيع أرامكو السعودية على اتفاقية استثمارات بأكثر من 12 مليار دولار في الصين.

ولا تخفي الصين عزمها إحداث تغييرات على النظام المالي الدولي وتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب بشراكة مع عدة دول في مقدمتها روسيا. وهي في مسعاها هذا تحاول إقناع العديد من الدول بالتعامل باليوان الصيني في التعاملات التجارية، كما أنها حثت السعودية وإيران ودول الخليج على الاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاي للنفط والغاز الطبيعي لتسوية معاملات النفط والغاز باليوان (بترويوان).

والظاهر أن جميع القرارات التي اتخذتها الرياض في علاقتها مع بكين تندرج ضمن خطة مدروسة وقرار سيادي من طرف المملكة. وحسب وكالة الأناضول، في مقال نشرته في السابع من أبريل 2023 اعتبرت فيه أن ’’التقارب السياسي والاقتصادي بين بكين والرياض، تمت هندسته في ديسمبر الماضي (2022)، ويتم تنفيذه خطوة بخطوة، خاصة وأن الصين أكبر شريك تجاري للسعودية، ومصالحهما ممتدة، ويمكن لتعاونهما الوثيق أن يساهم، بالتعاون مع شركاء آخرين، في إعادة بناء عالم متعدد الأقطاب بعيدا عن الهيمنة الأمريكية‘‘.

ولا يبدو أن الضغوط الأمريكية على السعودية بسبب ملفي حقوق الإنسان وطلب زيادة إنتاج النفط قد أثّرت على المملكة لتراجع قراراتها، بل إن العكس هو ما حدث. ففي الثاني من شهر أبريل 2023 أعلنت السعودية خفضا طوعيا لإنتاجها من النفط بنسبة 500 ألف برميل، وذلك تماشيا مع قرار أعضاء أوبك+ بخفض إنتاجها النفطي ابتداء من شهر مايو المقبل حتى نهاية سنة 2023. وحسب صحيفة وول ستريت جورنال، فإن بواعث القرار السعودي تكمن في أن الرياض ستفعل ما بوسعها لإبقاء أسعار النفط عند مستويات تعود بالفائدة على مصالحها الوطنية وتدعم سياسة ’’السعودية أولا‘‘.

ومن الواضح أن قرار أوبك+ لا يصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من التضخم ومن مشاكل متعلقة بالنظام المصرفي. ومن الواضح كذلك، أنه من أجل خفض نسبة التضخم ولو بشكل قليل، يحتاج الاقتصاد الأمريكي إلى نفط منخفض السعر، وهو ما لا يوفره قرار أوبك+ الذي بسببه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية بيع النفط من احتياطها الاستراتيجي (SPR) بنسبة 1.66 مليون برميل يوميا لتعويض النقص الناتج عن قرار أوبك+. وفي هذه الحالة سيكون الاحتياط الأمريكي كافيا فقط لمدة 266 يوما.

تنجذب السعودية نحو الصين، وتنجذب الصين نحو السعودية ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا الانجذاب المتبادل يحدث بسبب حاجة الأطراف إلى بعضها البعض. فالصين هي الشريك الاقتصادي الأول للمملكة، وفي سنة 2022 بلغ إجمالي قيمة التجارة بين العالم العربي والصين نحو 330 مليار دولار، أي ما يعادل 10% تقريبا من الناتج المحلي الجماعي للدول العربية. وتستورد الصين ثلثي حاجياتها النفطية من دول الخليج وإيران والعراق، وتسعى إلى حماية مصالحها في الشرق الأوسط في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، مشروعها الاستثماري الطموح العابر للقارات. وبالتالي فإن جزءا كبيرا من االاقتصاد الصيني يظل مرهونا باستقرار منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وأن أي حرب شاملة في المنطقة معناه حرمان ثاني اقتصاد في العالم من ثلثي الإمدادات النفطية التي يحتاجها ومن الموارد المحققة على مستوى العلاقات التجارية. ومن ثمة، فإن انجذاب الصين إلى المنطقة هو من باب الحتميات الاقتصادية والأمنية، وهو يعني فيما يعنيه مزيدا من الابتعاد بين السعودية ومركز الثقل الأمريكي.

(سعيد منصفي التمسماني/وكالات)

مقالات ذات صلة:

ـ هل بات النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط مهددا؟

 

X