الفهرس

حوار مع : بيونغ شول هان 

ترجمة وتقديم : البشير عبد السلام

 

مقدمة    

لا شك أن العديد منا تجمعه علاقة روحية مع بعض الأشياء الموجودة في محيطه الخاص، قد تكون أريكة في بيته أو كرسيا في فصله الدراسي أو فنجانا لا يستطيب قهوته إلا إذا احتساها منه.     

وقد كانت حنة أرندت تعتبر هذه العلاقة مع الأشياء الملموسة بمثابة التعبير الأكثر كثافة عن مفهوم الوضع البشري كمقابل فلسفي لمفهوم الطبيعة البشرية، وألمحت إلى أن ديمومة هذه الأشياء في حياة الإنسان تُضفي على وجوده إحساسا بالاستقرار.      

وإلى جانب ألفة الإنسان بالأشياء وما تمنحه له من إحساس بالاستقرار، ثمة جانب مهم آخر لا تقل مساهمته كثافة، وإن أضحى الآن منسيا جرّاء أسلوب عيشنا الجديد، ونقصد هنا الطقوس بمختلف تمظهراتها، والتي تتيح للإنسان أن ينسج علاقة روحية مع الزمن، حيث لا يبقى هذا الأخير مجرد تدفق مندفع ينفلت مِن بين أصابعنا كحبات رمل، لأنه بذلك لن يكون صالحا للسكن لافتقاده صفة الاستقرار الضرورية للإقامة في الزمن كما في المكان.     

هذا، وإننا اليوم إذ نقوم باستهلاكٍ نهِم للأشياء فإننا نستهلك معها أيضا أحاسيسنا بسبب نرجسية تُهدِّد بتدمير أهم شيء يميز عالمنا الإنساني عن غيره والمتمثل في النظام اللامادي والرمزي الذي يضفي المعنى على حياتنا الفردية والجماعية، كما أن ضغط الإنتاج وفاعلية الأداء قد سيطر على جميع مجالاتنا الحيوية بما فيها تلك الأكثر حميمية، بعدما كانت الطقوس المتعارف عليها بين جميع الأفراد تجسد القيم التي تجعل المجتمع أكثر تناغما وتشاركا، علاوة على تعزيزها لهويته المشتركة.    

لكل هذا ولأننا نعاين فداحة انتقالنا المتهوّر من مرحلةِ “مجتمعٍ متماسك بدون تواصل كثيف‘‘،إلى مرحلة “تواصل كثيف بدون مجتمع متماسك‘‘، فإننا رأينا من المفيد أن ننقل للقـارئ العربــي هذا الحــوار الذي أجرتــه ريبيـكـايـانكـي مع الفيلسـوف الألمانــي من أصـول كوريـة بيـونـغ شـول هان لصالـح صحيفـة ’’المانفيستــو El Manifiesto‘‘ الإسبانية على هامش صدور الترجمة الإسبانية لكتابه “اختفاء الطقوس‘‘.

الحوار 

¤ سبق وذكرتَ في كتابك الأخير أن العالم يعاني من التسويق لأسلوب عيش مفرط في الكثافة، وأن كل من يتطلّع باستمرار للجديد والمثير يفوته الانتفاع بما هو موجود، هل ترى أنه بمقدور هذه الجائحة أن تفتح لنا الباب للولوج إلى حياة مختلفة؟ 

• يقوم بعض علماء الاجتماع حاليا بالترويج لمقاربة رومانسوية لأزمة كورونا حين يتحدثون عن التباطؤ والسكون الذي طرأ فجأة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وبرأيهم فقد يُشكّل ذلك فرصة جديدة للعالم تُتيح لنا إيجاد وقت كاف للانتباه إلى زقزقة العصافير أو للتوقف لِشمّ عبق الورود، لكن الواقع يدعونا لأن نشكّك في كل ذلك، فالذي أراه أكثر احتمالية هو أن الرأسمالية ستنطلق بعد الجائحة بقوةِ دفعٍ أكبر، وأننا سنبقى نسافر معها بحذر أقل، ذلك أننا سنستمر في الضغط على أنفسنا لتقديم مردود أفضل ولتحسين أدائنا، وستزداد منافستنا لبعضنا البعض، فالرأسمالية اليوم ليست متباطئة بل هي فقط مركونة وتستعد للانطلاق من جديد.    إننا نقف إزاء مشهد يسوده شلل عصبي أو صمت بالغ التوتر؛ ذلك أننا لم نجنح للسكون والهدوء بإرادتنا بل تم إرغامنا على عدم التحرك، فالحِجر الصحي بهذا المعنى ليس وقتا للسكينة،و من ثمّ فإن هذا الفيروس لم يُحدث أي ثورة في الواقع كما يتوّهم البعض. 

¤ هل يعني هذا أن هناك تسريع لما سبق وطرحتَه في كتابك حول بداية دخولنا إلى عهدٍ تختفي فيه الطقوس؟! 

• من المؤكد أن الوباء يقوم بتسريع ظاهرة اختفاء الطقوس، فالعمل مثلاً لديه جوانبه الطقوسية، حيث أن الشخص يذهب إلى العمل في أوقات محددة ويقوم بمزاولة مهامه ضمن جماعة معينة، وكذلك فإن ما يعرف بـــ ’’Coworking‘‘ أو العمل التعاوني يحيل بدوره على الطابع الجماعي، في حين أن هذا المفهوم الطقوسي يندثر نهائيا مع فكرة العمل عن بعد الذي فرضته الجائحة.    وفي رواية الأمير الصغير للفرنسي سان إكزوبيري، طلب الأمير من الثعلب أن يزوره في نفس التوقيت دائما حتى تتحول الزيارة إلى طقس[1] ، وقد شرح الأمير للثعلب دلالة الطقوس، فهي تمثّل في الزمن ما يُمثِّله المسكن في المكان، إنها تجعل الزمن قابلا للسكن كما لو كان بيتا، علاوة على أنها بتنظيمها للزمن تجعله ذو معنى بالنسبة لنا، لكن الزمن يفتقر اليوم لبنية ثابتة، فهو لم يعد بيتا بل مجرد تدفق عابر.    في الماضي، كانت مشاهدة برنامج تلفزي في يوم محدد من الأسبوع، وخلال ساعة معينة رفقة جميع أفراد الأسرة تعتبر طقسا، أما اليوم فإنه بإمكانك أن تشاهد برامجك وحيدا وفي أي ساعة تريدها، وهذا لا يعني أننا نحصل على حرية أكبر مع مرور الوقت، فالمرونة المطلقة في الحياة تُخلِّف بدورها خسائر، والطقوس ليست مجرد قيود على الحرية بل إنها تضفي على الحياة تنظيما واستقرارا أكبر، فهي تعزّز في الجسد قيما وضوابط رمزية تجعل المجتمع من خلاله أكثر تماسكا.    إننا نختبر المجتمع والتواصل الجماعي داخله من خلال هذه الطقوس وعبر مرورها بالجسد، فيما تَفصِل الرقمنة جسدنا عن العالم، هذا الأخير قد عمّق الوباء جُرحَه وكثّف من حِدّة فقداننا للتجربة الجسدية الجماعية.

¤ هل يمكننا أن نضيف فقدان الشخص لمظهره العام إلى الحصيلة السلبية التي ذكرتها آنفا، وكيف يمكن للوجه أن يتحول إلى رمز للخصوصية؟! 

• شخصيا لا أريد أن يمنحني كاهن يرتدي كمامة واقية”الأسرار المقدسة” في الكنيسة، ويبدو أن هذه الجائحة جعلتنا نتصور حالنا وكأننا نعيش في مجتمع يحاول البقاء على قيد الحياة، وأن ذلك هو أقصى متمنياته كما لو أنه يعيش حالة حرب مستديمة، بل إن مجتمعاتنا أصبحت توظف كل قواها الحيوية لإطالة عمرها.    هكذا وبسبب هذا الوباء فإن مجتمع “البقاء على قيد الحياة” يمتنع عن حضور القُدّاس حتى في عيد الفصح، فيما يلتزم القساوسة بالمسافة الاجتماعية ويرتدون الكمامات الواقية، وبذلك يقدّمون الإيمانَ قُرباناً لأجل البقاء، بل إن الأنشطة المتعلقة بالإحسان بدورها تتم ممارستها مع الحفاظ على المسافة الاجتماعية، وهكذا ينتصر الفيروس على الإيمان، ومن جهة أخرى يبدو أن جميع الناس قد أصبحوا رهائن لما سيقوله علماء الأوبئة والفيروسات الذين أصبحوا يحتكرون كل تفسير، حتى تم طرد سردية “القيامة” بالكامل لصالح إيديولوجية الصحة والبقاء، وحتى البابا فرنسيس بدوره لا يُشكّل أي استثناء في هذا المشهد بعد أن كان القديس فرنسيس الأسيزي يعانق كل أبرص. 

¤ هل يمكننا الجزم بأن الحداد هو الطقس الذي تم تسريع اختفائه خلال أزمة كوفيد 19؟  

• إن الألم خلال طقوس الحداد يصبح بالغ الكثافة، فمراسم الجنازة يتم توظيفها كطلاء وقائي فوق الجلد يقي الفرد من الحروق الفظيعة التي قد تصيبه جراء وفاة شخص عزيز، فيما تجعل “الأسرار المقدسة” وطأة الموت أخف وتمنح دعما للمحتضر، وتعتبر الطقوس بدورها أجهزة وقائية، فحين تختفي عنا يجتاحنا شعور مفاجئ بالغربة وكأننا نقف في العراء، ولهذا كتبتُ سابقا أن الطقوس هي تقنيات رمزية تساعد على الاستقرار في المكان وتُحوّل الوجود في العالم إلى وجود داخل بيتٍ مألوف؛ إنها تجعل العالم مكانا جديرا بالثقة. 

¤ ألا ترى بالمقابل أن وضع الكمامات أعاد الاعتبار لأهمية النظرات في حياتنا، وأن ذلك قد يشكل استعادة لدور الإغراء والتواصل العاطفي في حياتنا؟! 

• الحقيقة أننا اليوم لا ننظر جيدا إلاّ نحو هواتفنا الذكية، وقلّما ننظر إلى بعضنا البعض، فحتى الأم تنظر بشكل متواصل نحو هاتفها الذكي عوض أن تتبادل مع طفلها نظراته المتكررة إليها، فالطفل يجد في نظرة أمه نحوه دعما يشعره بأنه ليس وحيدا في هذا العالم فتنغرس في داخله ثقة كبيرة، بينما يتسبب نقص النظرات في حدوث اضطراب في علاقة الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، وقد يكون سببا رئيسيا في فقدان التواصل العاطفي في عصرنا الحالي.    لقد نبّهتُ في كتابي “طرد ما هو مختلف‘‘ إلى أن الآخر ينكشف ويتمظهر كنظرة قبل أي شيء آخر، لكن الهاتف الذكي والرقمنة يجعلاننا نعيش في مجتمع خال من النظرات، فوسائل الاتصال الرقمية لديها تأثير سلبي على علاقاتنا بالآخر، حيث نفقد التواصل الروحي معه يوما بعد آخر.    قبل حوالي عشر سنوات، أنجزت الفنانة مارينا أبراموفيتش عرضا لا يُنسى في متحف الفن الحديث بنيويورك، وكان عبارة عن “طقوس النظرة”، حيث ظلت جالسة على كرسي لمدة ثمان ساعات يومية خلال ثلاث أشهر وهي تحدّق بدقة في عيون أي شخص يجلس قبالتها، وكان ذلك حدثا عاطفيا للغاية حتى أن البعض أحسوا بانفعال شديد جراء النظرات الحادة للفنانة و منهم من استلم للبكاء.    لهذا أعتقد أن “النظرة‘‘ يمكنها أن تشفي وبإمكانها أن تنتشلنا من عزلتنا النرجسية، ولك أن تتخيّل لو أن مارينا وضعت –بسبب فيروس كورونا– كمامة على وجهها أثناء تقديم عرضها!!. من المؤكد أن نظراتها لم تكن لتُحدث أي تأثير على الآخرين، لذلك أعتقد أن الوجه المكمّم يعزل الأشخاص دون أن يلاحظوا ذلك، ويقوم بتسريع اختفاء التواصل الروحي. 

¤ هناك من يتكهن بأن العالم ومعه الإنسان سيتغير بعد هذه الجائحة، وبالمقابل هناك من يظن أننا سنستمر في تكرار نفس البؤس المعتاد، فهل برأيك نحن مُقبِلون على تغييرات أم أن الأمر رهين بموضوع اللقاح؟! 

• أعتقد أنه -بشكل غير محسوس- فإن المسافة الاجتماعية ستترك بصماتها على مستقبلنا، وقد أصبحنا نعاين فعلا التمييز الاجتماعي، فوحدهم الأثرياء من يُسمح لهم بأخذ مسافة اجتماعية عن غيرهم، إذ ينسحبون نحو بيوتهم الفخمة بالأرياف، في الوقت الذي مازال فيه الفقراء ملزمين بالخروج من الضواحي التي يقطنونها والسفر في قطارات مزدحمة تُوصلهم إلى مقرات العمل.    إن الجائحة تُهدّد أيضا ليبراليتنا، وقريبا سيتم فرض قناعة عامة مفادها أن السبيل الوحيد لمحاربة الفيروس يجب أن يتمركز حول مراقبة الفرد، وهو ما كانت ترفض الليبرالية حدوثه بسبب تبعاته، فالمجتمع الليبرالي يتكون من أفراد يتمتعون بحرية الحركة ولا يتسامحون مع تدخل الدولة في حياتهم الشخصية، علاوة على أن حماية المعطيات الخاصة يحول دون مراقبة الأشخاص، وبما أن المجتمع الليبرالي لا يتوفر على إمكانية جعل الفرد هدفا للمراقبة فإن الشيء الوحيد الذي بقي في يده هو الإغلاق التام أو ما يعرف بــ ’’Shotdown‘‘ مع ما يجره ذلك من عواقب اقتصادية، لذلك قد يدرك الغرب قريبا حقيقة مصيرية تتمثل في أن الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يحُول دون هذا الإغلاق التام يرتبط بإنجاز سياسة بيولوجية مع مراقبة رقمية للجسد تسمح بالولوج غير المقيد لخصوصيات الفرد، بيد أن الوصول إلى ذلك يعني أيضا نهاية الليبرالية.

¤ لقد كنتَ تريد التعمق في دراسة الأدب، وتعتبر أن عدم الاهتمام بالشعر في عصرنا الحالي هو أيضا من أعراض”اختفاء الطقوس”. كيف ذلك؟ 

• الشعر هو مسرح تلهو فيه اللغة، فنحن حين ننظم قصيدةً فإننا نلهو حينها بالكلمات، والطقوس بدورها نوع من اللهو، ولعل نسياننا اللهو هو أحد أهم العوامل التي لا تجعلنا نقرأ الشعر إلا لماما، وبالمقابل نحن نقرأ روايات الإثارة و التشويق، لأنها تقدِّم لنا كشفا تدريجيا للحقيقة، كما لو أن الأخيرة هي معروضة للكشف.    إن فعل الكشف يُضمر شهوة إباحية، بما أن الحقيقة في البورنوغرافيا يتم اختزالها في الجنس، فنحن لا نقرأ الشعر لأنه من عادتنا أن ننتظر الحقيقة النهائية، والقصيدة ليس لديها ما تكشفه كنهاية، ولا تتيح قراءة بورنوغرافية، بل إننا حتى في ممارستنا للجنس تركنا اللهو، وأصبح تركيزنا اليوم على الفاعلية في أدائه، فحتى في ممارستنا للحب نفقد كل ما هو مرح.    لم يعد ثمة مكان للغواية في عصر التندِرTinder ولا وجود فيه لطقوس الإغواء، إننا ندخل مباشرة في الموضوع، بينما الإيروتيكي يعني أن نلهو بالأشياء الثانوية، ولذلك يجب علينا أن نتحرر من الفكرة التي تجعل تحقُّق المتعة أمرا رهينا بإشباع الشهوة، فهذه عقيدة المجتمع الاستهلاكي الذي تتحكم فيه الشهوات، وعلينا أن ندرك أننا في اللهو المشترك لا نحاول إرضاء شهوتنا الخاصة والأنانية، ولستُ بذلك أطالب بضرورة العودة للماضي، بل إنني فقط أدعو إلى إبداع طرق جديدة للتعايش واللهو المشترك؛ طرقٌ يتم تطويرها إلى ما وراء الأنا وما بعد الشهوة وما وراء الاستهلاك النهم. إنني أراهن من خلال كتابي على مجتمع مستقبلي، لذلك أرى من المهم أن ننتبه مع هذه الجائحة إلى مدى أهمية اللهو والطقوس، سيما وأنه لم يعد مسموحا لنا خلال الحِجر الصحي حتى بالأكل في جماعة، علما أن رقمنة التجمع للأكل أمر مستحيل !!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ يبدو أن بيونغ شول لم تسعفه ذاكرته جيدا وهو يستحضر محاورة الأمير الصغير مع الثعلب، ذلك أن الرواية تجعل الثعلب هو الذي يقترح على الأمير أن يأتيه في نفس الموعد كل يوم حتى يسهل عليه تدجينه. لكننا لا نستبعد أيضا أن تكون مديرة الحوار ومترجمته من الألمانية إلى الاسبانية هي التي وقعت في هذا الخطأ [ المترجم ] .

X