القراءة، الكتاب، الكاتب… عناصر مترابطة لقضيّةٍ واحدة

بقلم: سعيد منصفي التمسماني

القراءة هي إحدى أدوات بلوغ حقول المعرفة، ومن بين أفضلها تأثيرا وفعالية، ولها فوائد لا تحصى…

والناس في مجتمعاتنا يدركون أهمية القراءة ويتحدثون عنها، ورغم ذلك لا نلاحظ  ما يدل على رسوخ ثقافة القراءة واقعـا ملموسا والتعاطـي معهـا كـأداة ضروريـة لبنـاء أسس مجتمـع قـارئ يقـود إلى مجتمع المعرفـة والتقـدم والرقـي.

لا يزال سائدا نوع من الاعتقاد بين فئات من الذين تسلموا وظائفهم بعد قطع مسار أكاديمي محدد،  يعتبر أن القراءة تنتهي بانتهاء الدراسة،  وهؤلاء نظرياً  يعَدّون ضمن نخبة المجتمع …

فإذا كان هذا حال بعض النخب وهذه هي نظرتهم إلى القراءة، فكيف يكون حال العوام؟!

يستحيل بناء مجتمع المعرفة عندما تُحصَر المعرفة نفسها في أهداف لا تتعدى الحصول على الوظائف والمناصب والامتيازات المادية .. بهذا السلوك، نؤسس لثقافة وصوليـة غايتهـا تحقيق الغايات الشخصية دون اعتبار للوسيلة، وهو ما ينتهي بصاحبه إلى الابتعاد عن القراءة  والتشكيك في جدواها…

ويصعب بناء مجتمع المعرفة والقراءة عندما تتعامل الجهات الرسميـة مع ملف المعرفـة باعتباره عبئا ماليا على ميزانية الدولة، وتوجّه التعليم نحو اقتصاد السوق الآني بدل توجيهه نحو  الاقتصاد المعرفـي .. فمعلـومٌ أن الأول يتميز بطابعه الظرفي بينمـا يتميـز الثانـي باستمراريته، ومن ثمة كان الأوْلـى الاستثمـار الاستراتيجي فيما هـو مُستمِر والاستجابة لما هو ظرفي وفق قواعد الظرفية…

لا يحصل المرء على جواب مقنع عندما يتساءل عن أسباب ضعف الميزانيات المخصصة للبحث العلمي وللثقافة وما يتصل بهما. وقد أضحـى التحجّجُ بمقولة ’’ضعف مـوارد الدولة‘‘ مفرَغاً من محتواه، إذ ثمة أسباب أعْقد…

تتحمل الحكومات مسؤولية ’’أزمة القراءة‘‘، ويتحمل المجتمع نسبةً منها .. فأسباب عدم الإقبال على الكتاب، إذن، تتراوح بين ما هو سياسي واجتماعي/ثقافي، بدرجات متفاوتة.

إن المعطيات المتعلقة بمؤشر القراءة في العالم العربي تظل مقلقة .. هذا، إذا جاز لنا الحديث عن مؤشرات ذات مصداقية أو منهجية علمية موثـوق بهـا لإعـداد مثل هذه المؤشـرات، فالجهات الرسمية لا تعتني بهذا الموضوع عناية تليق بثقله وأبعاده، وما يحصل عليـه الباحـث والمهتم من معطيـات حول مؤشـر القـراءة وميولات القارئ ووضعية النشر سواء الورقــي أو الرقمي إنما يصدر في مناسبات محدودة في دراسات واستطلاعات  تقوم بها جهات خاصـة؛ بل إن المبادرات في مجال النشر على المستـوى الورقي والرقمي باتت من عمـل المؤسسـات الخاصة مقابل تراجع الدور الحكومي.

اتحاد الناشرين العرب أصدر تقريـرا حـول موضوع ’’النشر في العالم العربـي‘‘، بيّـن من خلاله مشكلة غياب الإحصاءات الدقيقــة فـي الموضوع، وتطرق فيه إلى ’’أزمة‘‘ الكتاب العربي، سواء تعلق الأمر بالكتاب الرقمي أو الكتاب الورقي الذي تفيد الأرقام بشأنه بأن متوسط نسخ كل طبعة  يترواح فقط بين خمسمائة وألفين نسخةّ!!

وعندما نتكلم عن أزمة الكتاب العربي بسبب ضعف الإقبال على القراءة، يجب استحضار أهم عنصر  يوجد خلف هذا الكتاب، طواه النسيان والإهمال حتى غاب عن المشهد فلا يكترث أحد لظروفه ووضعيته ومشاكله، ولولاه ما كان الكتاب .. يُسَمّونه: ’’الكاتب‘‘، ويشيرون إليه من بعيد، يُحَمّلونه واجب الكتابة الجيّدة، ويتغافلون عن واجب المجتمع تجاهه…

يروي المراكشي في كتاب ’’المعجب‘‘، أن تصانيف ابن حزم الأندلسي (994م / 1064م) بلغت نحو أربعمائة مجلد تشتمل على ثمانين ألف ورقة. ويقول: ((هذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة قبله إلا لأبي جعفر بن جرير الطبري…)).

ذلك كان وقتا من التاريخ الإسلامي بظروفه ومجتمعه وخصائصه، لمعت فيه نجوم كثيرة في سماء الفكر والكتابة، رغم أن وسائل النشر حينئذ من ورق وتوزيع وغيره كانت محدودة كمًّا ونوعا…

غير أني لا أظن أن ابن حزم كان سيـؤلف هذا العـدد من التصانيـف لو قُدّر له أن يعيش بيننا، وربما مارس عملا آخر وظلت مواهبه الفكرية محبوسة في داخله…!!

في وقتنا الحاضر، يواجه الكاتب العربي جملة من التحديات الصعبة. فإلى جانب عدم الاهتمام الرسمي بقضية ’’القراءة‘‘ اهتماما يوازي جسامتها، هناك عقبات أخرى في طريق أولئك الكُتّاب الملتزمين بجدّية المواضيع التي يكتبون فيها والذين تسلتزم طبيعة كتاباتهم تفرغا يسمح لهم بإنتاج أعمال محترمة على اختلاف ألوانها الفكرية.

إن الكاتب مثله مثل أي إنسان يعمل في مجال آخر، يحتاج إلى ما يحفزه معنويا وماديا ليرقى في عمله، وهو لا يجد هذا التحفيز وسط مجتمع لا يقرأ، وتنعدم رغبة القراءة فيه حتى عند المتعلمين،  وحيث قراءة الغالب الأعم قراءةٌ من جنس التهافت على المبتذل .. في أوضاع مشابهة، تصير الكتابة الملتزمة ضرباً من ضروب الجهاد والمعاناة، وقليلٌ من الملتزمين من يواصلون السير في دروبها…

ينطبق على العلاقة القائمة بين الكاتب ومجتمع كالذي تحدثتُ عنه، ما قاله الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان مبررا قسوته في إخماد الفتن: ((تكلفوننا أعمال المهاجرين ولا تعملون مثل أعمالهم…)).

ثم هناك مشكل آخر، حديث النشأة، شاءت له البيئة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية أن ينتشر ويفرض نفسه على المبدعين من أي لون كانوا، وأن يتحول إلى ظاهرة تؤرق صناع المحتوى والناشرين، وهذه الظاهرة يسمونها بـ ’’القرصنة‘‘، وتعني ’’النسخ غير القانوني للكتب والقطع الموسيقية وبرامج الحاسوب‘‘، وهي في الحقيقة نوع من السرقة، وسَطْوٌ على حقوق المِلْكيّة الفِكريّة أو الأدبيّة أو الفنيّة، يعاني منها الكُتاب والمبدعون ومالكو الحقوق أيما عناء، لأنها تحوّل ثمرات موهبتهم وجهدهم وتعبهم واستثماراتهم إلى أطراف أخرى يستولون عليها دون وجه حق .. واللافت، أن الناس لا تستنكر الظاهرة، بل تشجعها بالإقبال على منتوجها، وكأن أعمال المبدعين في ثقافة هذه المجتمعات وعرفها قد قُدّر لأن تكون ملكيتها على الشيــاع…!!

أصبحت الكتب الورقية هدفا للقرصنة أكثر من أي وقت مضى، وصارت تجارة مربحـة لمن يمارسهـا على حساب حقوق مؤلفيها، وأصبح مشهد  النسخ المزورة من الكتب التي تباع بنصف ثمنها الأصلي أمرا عاديا، كما أصبح عاديا تداول نسخ إلكترونية منها دون إذن أصحابها. والمقلق، أن ظاهرة القرصنة هذه في منحى تصاعدي لا تُعرف حدوده…!!

القراءة، الكتاب، الكاتب… هي إذن، عناصر مترابطة لقضيّةٍ واحدة، يمتلئ مسارها بعدة عقبات وعوائق تختلف نسبيا في المغرب العربي والشرق الأوسط من بلـد إلى آخـر .. ففـي المغـرب، مثـلا، تمر القضيّة بمنعطف خطير، يستلـزم من الجميـع الحذر والتعامل مع الموضوع على قدر أهميته وجسامته. فئة قليلة هناك لا تزال تهتم بالقراءة، وصعوبات ضخمة يواجهها الكُتّاب المغاربة، في ظل محدودية الدعم الرسمي والتحفيزات المادية والمعنوية وانعدام شبه كلي لأي دخل من عملية التأليف والكتابة، حتى إن فئة من الكُتّاب يضطرون إلى نشر أعمالهم من مالهم الخاص لعرضها في وسطٍ جلُّ مكوناته لا تبالي بالكِتاب ولا تنظر إليه كعنصر مهم في حياتها، بينما فئة أخرى تفضل عرض أعمالها على دور النشر في بلدان الشرق الأوسط ولاسيما في بعض دول الخليج العربي.

ليست القراءة ترفاً كما يتصور البعض، بل ضرورة لا غنى عنها لكل مجتمع حيٍّ يسعى إلى التنقل في مدارج الرقي .. فاختراع المطبعة في ألمانيا على يد غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر لم يكن من أجل الترف وقضاء أوقات الفراغ بقدر ما أنه كان شعلة أيقظت ثورة معرفية في أوروبا كان لها ما بعدها، إذ انخفضت تكلفة طباعة الكتب، فازدادت طباعتها، حتى تراوح عددها في أوروبا الغربية في القرن السادس عشر بين 150 مليون إلى 200 مليون نسخة!!

ويسجل المؤرخون، أن دخول أول مطبعة عربية إلى المغرب حدثَ سنة 1860م على يد أحد الخواص، وقد  كان لها الفضل في طباعة حجم مهم من المؤلفات وانتقال الأفكار وانتشار الثقافة في الوسط الحضري وظهور المحاولات الأولى لنشأة الصحافة العربية داخل المغرب. وكانت البنية الثقافية المغربية في ذلك الحين تشكّل أصعب العقبات في سبيل الإصلاح .. فهذا محمد بن إبراهيـم السباعـي المراكشـي، أحد علماء المغرب في ذلك الوقت، نجده يحذّر من الكتب المطبوعة لما أخذت تنتشر ويقول بأنها ((سبب في تقليل الهمم وعدم حفظ العلم)) ويؤلف رسالـة فـي الترغيب في المؤلفات الخطية!!

هكذا نستنتج، إذن، أن البنية الثقافية قد تتحول فـي بعض الأحيـان إلى عامـل يعيق مسار التقدم…

إن من سمات المجتمع القارئ، أنه مجتمعٌ قابل لاستيعاب برامج الإصلاح، غير مكلف للدولة ولمرافقها العمومية لما يتميز به من وعي، محصّن ثقافيا ضد التطرف وأساليب الكذب والتزييف، يزدهر في وسطه التعليم، لأن الإنسان القارئ يتميز بالقدرة على التكوين الذاتي واستعداده الدائم لاكتساب الخبرات إذ التّعَلمُ بالنسبة إليه شغفٌ لا ينحصر داخل جدران المدارس فقط إنما التجارب الإنسانية والعالم بأكمله في نظره مصدران أساسيان للمعرفة .. هكذا يجب التعاطي مع القراءة على أنها جسر تمر عبره حلول كثيرة لقضايا المجتمع، ولا أبالغ إذا قلت إنها الجسر الذي تمُرّ عبْره كـلّ الحلول…

وليس من اللازم اللازب أن ننظر إلى القراءة كضرورة فقط، فهي فعلا ضرورية للمجتمع كما قلت، لكن تأثيرها على الحس والفكر والخيال يتعدى الضرورة إلى ما هو أعلى، إلى الإبداع والتصور، وقـد تكـون شكلا من أشكال السعادة والمتعة كما قال عنها بورخيس، أو ’’قد تكون دون غيرها هي التي تعطي الإنسان أكثر من حياة واحدة في مدى عمره الواحد لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب‘‘ كما قال عنها العقاد…

 

X