وهل يتجه إلى نظام متعدد الأطراف يتخلى فيه الدولار الأمريكي عن جزء

من مكانته الاقتصادية والسياسية؟

بقلم: سعيد منصفي التمسماني

 

إن الحديث عن نهاية عهد هيمنة الدولار لا يعني بالضرورة أننا صرنا أمام مشهد واقعٍ نرى فيه كيف تَحلُّ عملة أو عملات أخرى مكان الدولار لتزيحه عن مرتبته الأولى التي اكتسبها منذ اتفاقيات بريتون وودز عام 1944.

ما نراه الآن هو  بدْء فترة انتقالية أخذ فيها الدولار يتراجع تدريجيا ليفسح المجال لعهد جديد سيتخلى فيه النظام المالي الدولي عن ارتكازه على الدولار مقابل نظام مالي متعدد الأطراف. بتعبير آخر، فإن الدولار “القوي” ما يزال أمامه بعض الوقت وليس كل الوقت. ولعل أكبر حليف للعملة الأمريكية في حفاظها على مكانتها حتى الآن على رأس النظام النقدي الدولي هو غياب البدائل، لكن هذا الوضع هو مؤقت ولا بد له أن يتغير.

ثم إن إزاحة الدولار عن مكانته دون سابق إنذار على نحو قد يؤدي إلى انهياره ليس من مصلحة أي طرف. فإذا علمنا أن المديونية العمومية للولايات المتحدة تبلغ حوالي 31.4 تريليون دولار وأن جزءا كبيرا من هذه المديونية تحتفظ بها دول أجنبية كالصين واليابان وشركات أمريكية لها مصالح متشابكة مع الخارج، علمنا إذن لماذا يسعى الجميع إلى التريث وتجنب الكارثة المالية التي قد تحدث جراء انهيار الدولار، وبالتالي، تَخَلُّف واشنطن عن سداد ديونها.

سَجّل الدولار انخفاضا على مستوى إحتياطيات البنوك المركزية في العالم في العقود الأخيرة، وهو ما يزال يسير في اتجاه الانخفاض، وحاليا فإن الدولار الأمريكي لا يمثل سوى نسبة أصغر بقليل من 60٪ من إحتياطيات النقد الأجنبي في البنوك المركزية على مستوى العالم، بينما كانت هذه النسبة تتجاوز  80٪ في سبعينيات القرن الماضي.

في يناير/كانون الثاني 2023 أصدر معهد كريدي سويس للأبحاث تقريرا شاملا حول عدد من القضايا السياسية والاقتصادية المهمة. ومن أبرز القضايا التي تطرق إليها: مسألة مكانة الدولار الأمريكي في النظام النقدي الدولي. وفي هذا الصدد، ربط التقرير بين عملية تقييم مكانة الدولار واسشراف آفاقه وبين احتمال تعرض الاقتصاد الأمريكي لنوع من عدم الاستقرار بسبب ارتفاع نسبة التضخم بشكل حاد خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية مع تراجع نسبة النمو ودخول الاقتصاد الأمريكي في حالة  الركود التضخمي.

وحسب التقرير، فالبرغم من أن الفدرالي الأمريكي قد تدخل لإيقاف ارتفاع نسبة التضخم بواسطة الزيادة في سعر الفائدة، فإن نتائج هذه السياسة المالية تظل ظرفية ولا يمكن التعويل على نجاعتها لوقت طويل حيث هناك عوامل هيكلية أشار إليها خبراء كريدي سويس في تقريرهم تجعل من الصعب التغلب على التضخم، من بينها: مشكل نقص العمالة بسبب الانخفاض الديموغرافي، ومشكل الخصاص على مستوى إنتاج بعض البضائع الاستراتيجية كالرقائق الإلكترونية، وضخامة الدين العمومي، والعجز الكبير المسجل على مستوى الحساب الجاري، بالإضافة إلى تداعيات الحرب التجارية الأمريكية الصينية والاضطرابات الاقتصادية التي خلّفها انتشار الوباء. ومن ثمة، فإنه من المرجح أمام حالة عدم اليقين هذه أن تحدث تقلبات في أسواق العملات ستؤدي مع مرور الوقت إلى أن يتضرر مركز الدولار الأمريكي وبعض العملات الأخرى كاليورو باعتبارها مستودعات للقيم.

يقول التقرير، إن الزيادة الحادة في الدين العمومي الأمريكي في السنوات الأخيرة والعجز الكبير الذي يسجله الحساب الجاري للولايات المتحدة (إذ اتسع العجز التجاري الأمريكي مُسجلا 948.1 مليار دولار سنة 2022) لا يساعدان الدولار الأمريكي على الاحتفاظ بمكانته في الأسواق العالمية، ويُفسّر التقرير ذلك، بأن البلدان التي تعتبر عملاتها  عملات احتياطية قد لا يضرها أحيانا الوقوع في عجز مبرمج على مستوى الحساب الجاري إن كان ذلك يهدف إلى تلبية الطلب العالمي على الأصول القابلة للاستثمار، غير أن استمرار العجز الكبير المفرط يهدد في النهاية بتقويض الثقة المطلوبة للحفاظ على مكانة العملة الاحتياطية.

إضافة إلى العوامل المذكورة، يسحتضر الخبراء عاملا آخر يساهم بشكل كبير في تقويض مكانة الدولار. والمقصود هنا، العقوبات المالية التي فرضها الغرب على روسيا والتي تضمنت تجميد أصولها الدولارية.

فمن المعلوم أن قسماً كبيراً من صلاحية القانون الأمريكي خارج أراضي الولايات المتحدة يقوم على الدولار، أي على دوره المحوري في المعاملات الدولية. لذلك، يتساءل البعض، إن كانت واشنطن قد بلغت مرحلة الغلو بتوظيفها للدولار الأمريكي كآلية للضغط على الدول والتدخل في شؤونها الداخلية وتحويله (أي الدولار) إلى نوع من أسلحة الدمار الشامل؟ وهل ستعود هذه المرة العقوبات المالية المفروضة على روسيا بشكل سلبي على مكانة الدولار وثقة المتعاملين به؟

لا شك في أن العديد من البنوك المركزية التي لا تنتمي إلى المحور الغربي هي الآن في صدد مراجعة سياساتها المالية والعمل على تنويع احتياطاتها من العملات الأجنبية، حيث بات من المؤكد أن امتلاك الأصول بالدولار أضحى ينطوي على مخاطر غير متوقعة، إذ قد تتعرض للتجميد في حال ما إذا تدهورت العلاقات مع الولايات المتحدة.

في مقال نشر في صحيفة الفايننشال تايمز بتاريخ 20 يناير/كانون الثاني 2023، أوضح فيه “بوزار زولتان” (Zoltan Pozsar)، أحد كبار مسؤولي كريدي سويس، إلى أن العوامل الجيوسياسية قد أثرت على مكانة الدولار، وأن هذا الأمر في حد ذاته ينطوي على مخاطر بالنسبة للمستثمرين. وأضاف الخبير المالي، أن فرضية الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب في ظل ظهور شرخ  واضح في مجموعة العشرين سيؤثر على النظام النقدي الدولي القائم على الدولار، وأن هذا النظام يتعرض حاليا بالفعل لمجموعة من التحديات، أبرزها: سعْي بعض القوى الدولية إلى إنهاء “الدولرة”، وانتشار العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC).

وقد أشار “بوزار: في مقاله إلى ما أسماه بــ “الجبهة المتقدمة” في عملية إنهاء “الدولرة”، مؤكدا أن الظاهرة قد تسارعت في العام الماضي، حيث لجأت كل من الصين والهند إلى تسديد المواد الخام الروسية باليوان والروبية، وأحدثت الهند آلية مالية لتسوية معاملاتها الدولية بالروبية، بينما حثّت الصين دول الخليج إلى الاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاي للنفط والغاز الطبيعي لتسوية معاملات النفط والغاز باليوان (بترويوان). ومع إمكانية زيادة أعضاء دول “البريكس”، فإن وتيرة عملية الاستغناء عن الدولار الأمريكي مرشحة للارتفاع في المعاملات التجارية الدولية.

تعلم الصين أن ارتباطها بالنظام المالي الذي يسيطر عليه الغرب بقيادة واشنطن بات محفوفا بالمخاطر، لذلك فهي تسعى إلى إيجاد بديل من خلال إحداث نظام أو شبكة مالية جديدة لإنجاز العمليات التجارية الدولية.

يرى “بوزار”، أن الشبكة الناشئة القائمة على CBDC، المدعومة بخطوط تبادل العملات الثنائية، يمكن أن تعمل كصلة وصل بين الأنظمة المصرفية للدول الشرقية والجنوبية لتدفق العملات الأجنبية والتسديد دون استعمال الدولار الأمريكي.

من الواضح إذن، أن العالم بات يقترب شيئا فشيئا إلى تغيير في النظام النقدي، سيتخلى فيه الدولار عن جزء من مكانته الاقتصادية والسياسية لصالح عملات أخرى، لكنه سيظل محافظا على قدر من الأهمية. وسيتطلب هذا الانتقال إطارا زمنيا معقولا. وقد توصل تقرير كريدي سويس إلى نتيجة مماثلة، مفادها:  أن ثمة تطورًا تدريجيًا نحو نظام نقدي متعدد الأطراف. غير أن سيناريو الابتعاد بشكل متطرف عن النظام الدولاري، يظل يمثل الحالة الأقل احتمالاً.

مواضيع ذات صلة:

ـ هل قضى الغزو الروسي لأوكرانيا على الدولار الأمريكي؟

ـ هل يتسبب فصل روسيا عن نظام سويفت بأزمة للدولار؟

ـ روسيا: العملية في أوكرانيا هدفها إنهاء هيمنة واشنطن على العالم

ـ الحرب المالية بين روسيا والغرب

ـ كيف يعمل نظام سويفت

X