هل يوجد في إسبانيا من يريد إنهاء النظام الملكي وتحويله إلى نظام جمهوري؟

الجواب: نعم. وهؤلاء يعلنون عن أنفسهم منذ وقت طويل، وينتظمون في أحزاب وجمعيات معترف بها قانونيا، ولا يعملون في الخفاء. 

لكن السؤال المطروح، لا يرتبط بالنشاط التقليدي للمحسوبين على التيار الجمهوري والذين معظمهم ينتمون لليسار الإسباني وللانفصاليين من كطالونيا وبلاد الباسك، وإنما بالضجة الإعلامية حول الملك الفخري خوان كارلوس، التي ازدادت وتيرتها بشكل ملفت خلال هذه الأيام، وتكاد تشغل الحيز الإعلامي الإسباني برمته، إلى درجة يمكن القول عنها، إنها أضحت القضية الأولى إعلاميا، متفوقة بذلك على قضية كورونا وتداعياتها. 

وأصل القضية، هو ما قيل عنها، إنها أموال وهدايا تلقاها الملك الفخري لإسبانيا من إحدى الدول الخليجية ومن جهات أخرى ولم يصرح بها لإدارة الضرائب، وربما وضعها في حسابات خاصة خارج إسبانيا إلى جانب أموال أخرى.  وأسرار القضية انكشفت بالأساس بتصريحات صديقة الملك، كورينا لارسن، للادعاء السويسري، ولشخص إسباني نافذ متهم بقضايا التجسس يوجد حاليا رهن الاعتقال، وهو خوسي مانويل فياريخو، الذي قام بتسجيل محادثاته مع كورينا. 

وبالرغم من أن الادعاء الإسباني قد فتح تحقيقا حول القضية، إلا أنه لم يستدع الملك الفخري لإسبانيا، والذي إلى حد الآن لا توجد دلائل كافية لتوجيه الاتهام إليه بشكل رسمي. 

ثم إن القضية أضحت مناط نقاش قوي، بين من ينادي بضرورة محاكمة خوان كارلوس، وبين من يرى أن الرجل لم يستحوذ على أموال عمومية وإنما فقط تلقى أموالا وهدايا من أطراف أخرى تحكمها أعراف خاصة بها، وأن المُرْتَكَبَ لا يعدو قضية عدم تصريح ضريبي، يمكن إيجاد حل قانوني لها نظرا للمركز الاستثنائي لصاحبها، ولأنها تتعلق بأموال صادرة عن دول جرى تعاملها على هذا النحو الخاص بها في عدة مناسبات ومع أطراف دولية متعددة. 

وربما لا يستطيع المرء فهم عمق الضجة المثارة إلا إذا ربطها بالصراع التاريخي القديم المتجدد بين المناصرين للنظام الملكي والمناصرين للنظام الجمهوري. 

ولتقريب أصل الصراع، علينا أن نعود إلى سنة 1700، وهي السنة التي بدأ فيها حكم الأسرة الملكية من آل ’’بوربون‘‘ التي ينتمي إليها خوان كارلوس، و نهاية عهد أسرة ملكية أخرى، وهي أسرة آل ’’هابسبورغ‘‘.

وهذه السنة لها رمزيتها كذلك بالنسبة لبعض المناطق الإسبانية لأنها تشكل فترة البدء في إلغاء بعض الامتيازات المالية والقانونية التي كانت تتمتع بها بعض الممالك الإسبانية، وهي: كطالونيا وأراغون وفالنسيا، والتي كانت متحدة مع التاج الإسباني وفق شكل كنفدرالي، قبل أن يتحول شكل الدولة إلى نظام مركزي منذ عهد فيليبي الخامس من آل ’’بوربون‘‘. 

منذ ذلك الحين، دخل التاج الإسباني في صراعات على مستويات متعددة، تارة يقودها أنصار الأسرة الملكية السابقة، وتارة أخرى يقودها عناصر من داخل آل بوربون (أنصار كارلوس الخامس)، بينما كانت كطالونيا تساند هذا الطرف أو ذاك لإضعاف السلطة المركزية واسترجاع ما تسميه بــ ’’حقوقها التاريخية‘‘. 

لم يكن الوضع مريحا بالنسبة للأسرة الملكية الحاكمة مع وجود أدعياء ومطالب ترابية من بعض المناطق، وستسوء الأمور في عهد الملكة إيسابيل الثانية التي ستُجْبَر على مغادرة إسبانيا إثر قيام ثورة 1868 لدواع اقتصادية واجتماعية، وسيسعى الحكام الفِعْليون الجدد إلى تنصيب ملك جديد، حيث تولى أمر ذلك، الجنرال فرانسيسكو سيرانو الذي كان وصيا على العرش.

ومن طرائف الأمور آنذاك، ما صرّح به هذا الجنرال حينما استعصى عليه إيجاد ملك مناسب لتولي العرش، فقال مشتكيا: ’’إن العثور على ملك ديمقراطي في أوربا أمرٌ في غاية الصعوبة مثل البحـث عن مُلحـد في السمـاء‘‘ !!. وعلى أية حال، انتهى المشهد بتنصيب ملك من أصل إيطالي، هو ’’أماديو دي سابويا‘‘، لكن فترة حكمه لن تدوم سوى سنتين، حيث قدّم تنازله عن العرش بعدما أرهقته الخلافات الداخلية.

ولم تمر ساعات قليلة عن عملية التنازل حتى تم الإعلان عن استبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري. غير أن الجمهورية الأولى في تاريخ إسبانيا، ستعرف من الأحداث والمشكلات، ما سيجعل عمرها لا يصل إلى السنتين، حيث انطلقت في 11 فبراير 1873 وانتهى مسارها في 29 دجنبر 1874، ليعود النظام الملكي من جديد في شخص ألفونسو الثاني عشر من آل بوربون بدعم من الجيش الإسباني. 

لكن عودة الملكية هذه المرة لم تكن قوية، فكانت سلطتها محدودة بفعل تواجد قوى داخلية، في مقدمتها: الجيش. ونظرا للصراعات الترابية الداخلية وللأحداث الخارجية، دخلت الملكية في إسبانيا مرحلة ضعف ظاهر، أسفر عن زوالها مرة ثانية، وقيام الجمهورية الثانية في تاريخ إسبانيا، ابتدأت سنة 1931، وكُتب لها النهاية سنة 1939 على يد الجنرال فرانكو، الذي أسس نظاما عسكريا صارما امتد إلى غاية سنة 1975، وهي السنة التي سيعمل فيها فرانكو، قبيل وفاته، على إعادة تنصيب خوان كارلوس ملكا لإسبانيا، والذي سيظل في منصبه إلى غاية تنازله عن العرش لصالح ابنه فيليبي السادس سنة 2014. 

فنحن إذن، أمام نظام سياسي له تاريخ متعدد الروافد، وكل فريق سياسي ينهل من الرافد الذي يناسبه، فالجمهوريون يبنون شرعيتهم على أساس ما حدث خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، والانفصاليون يؤسسون مقولتهم على أساس ما يدّعونه من حقوق تاريخية، وأنصار الملكية يحاججون بالتاريخ، وبتاريخ إسبانيا على وجه الخصوص الذي يربطونه وجودا وعدما بالنظام الملكي، سواء في عهد آل ’’هابسبورغ‘‘ أو في عهد ’’آل بوربون‘‘. 

وبالتالي، لا يمكن فهم ما يحدث حاليا على الساحة السياسية الإسبانية، وتحمس فريق دون آخر لإثارة قضية خوان كارلوس، دون ربط الأمور بروافدها الأصلية كما سبقت الإشارة. 

وبعيدا عن هذا الفريق أو ذاك، ومن خلال رؤية موضوعية، ما يمكن قوله حول الموضوع، هو إن الملكية الإسبانية منذ فترة خوان كارلوس، هي ملكية دستورية ديمقراطية بامتياز، وهي تسود ولا تحكم، ودورها رمزي وتوحيدي أكثر من أي دور آخر، وبالتالي من المجحف تحميلها أو وصفها بأكثر مما تتحمل. 

ثم إن الملك الفخري خوان كارلوس، قد لعب دورا حاسما في إرساء الأسس الديمقراطية لإسبانيا إلى جانب رجالات أخرى مثل كارِّيو وسواريس وغونثاليث وميكيل روكا وغيرهم، وكان تدخله حاسما في فشل الانقلاب العسكري في 23 فبراير من سنة 1981 الذي كان سيعيد إسبانيا القهقرى، واستطاع بعلاقاته ودبلوماسيته المتميزة أن يساهم في ترطيب الأجواء داخليا بين الأحزاب السياسية وبين بعض مناطق الحكم الذاتي والسلطة المركزية، بالإضافة إلى أنه كان عاملا مهما في استقرار العلاقات الخارجية الإسبانية مع الدول الأخرى نظرا لما يتمتع به الرجل من قبول واحترام عند ملوك ورؤساء الدول الأجنبية.

لهذا يجب وضع كل المنجزات في كفة الميزان، وما تدعيه بعض وسائل الإعلام والأصوات المتشددة في الكفة الثانية من الميزان. وإن كان لا بد من لوم الرجل على خطأ قد ارتكبه، فيجب أن يكون لوما جميلا على قدر الفعل المرتكب، وليس عملا انتقاميا لتجريده من ألقابه و النيل من إرثه ومساهمته في بناء الدولة الإسبانية المعاصرة. وقد أشار إلى مثل هذا الكلام الرئيس السابق لإسبانيا، فيليبي غونثاليث، الذي نصح بالهدوء واحترام تاريخ الملك الفخري لإسبانيا.  

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X