المقال الأول: مقدمة عامة حول مفهوم القانون

 

القانون بإطلاق، ينصرف إلى القواعد التي لها طابع الاطِّراد، والاستمرار والاستقرار. وهي بهذا الوصف العام، تسري في كل مجال من مجالات الطبيعة والحياة.

أما القانون، كمصطلح ضمن دراسات ’’علم القانون‘‘، فهو ينصرف إلى مجموعة من القواعد التي تتخذها جماعة بشرية ما كإطار مرجعي لتنظيم حياتها الاجتماعية وشؤونها الداخلية والخارجية. وقد يكون هذا القانون وضعيا، أو طبيعيا، أو دينيا، أو مزيجا من العناصر المذكورة. وبالتالي نكون ههنا، أمام ثلاثة أصناف من القانون –الوضعي، والطبيعي، والديني (الإلهي)- تستلزم منا توضيحا.

القانون الوضعي هو ترجمة للمصطلح الفرنسي Droit positif، وهو مجموعة من القواعد المُلزِمة، المقترنة بالجزاء، والسارية المفعول، التي تنظم علاقات المجتمع ومعاملاته في دولة معينة  وخلال فترة معينة. والمقصود بصفة الوضعية، أي أنه قانون موضوع وقائم. كما يُقصد بها، توافرُ الإيجابية أو الفعالية لقواعده بمقتضى ما يصاحبها في التطبيق من إجبار على احترامها وسريانها، تفرضه السلطة العامة في المجتمع[1].

ويتكون القانون الوضعي من التشريع الأساسي وهو الدستور، والتشريع العادي وهو القانون بالمعنى الضيق الصادر عن السلطة التشريعية، والتشريع الفرعي وهو المراسيم واللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية لتطبيق النصوص القانونية، والعرف وهو القاعدة القانونية  غير المكتوبة  باعتبارها مصدرا احتياطيا للقانون يُعتمد عليها في حالة غياب النص التشريعي.

يرى أصحاب المذهب الوضعي المنتمون للاتجاه القانوني، أن القانون يُعبّر عن إرادة الدولة لأنها هي من تضعه، وأن  إلزامية القاعدة القانونية مردُّها مجرد وجودها. هؤلاء، هم المُنَظِّرون لفكرة ’’الأمر الواقع‘‘ وفكرة ’’قوة الدولة‘‘، وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني فريديريش هيجل (1771-1831). أما أصحاب المذهب الوضعي من الاتجاه الاجتماعي، فإنهم يقولون بأن القانون هو نتاج المجتمع وتفاعلاته، وأنه يعبر عن الضمير الجماعي حيث يسري ذلك القانون. ومن رواد هذا الاتجاه: الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917)، والفقيه الفرنسي ليون ديجي (1859-1928).

يقابل القانونَ الوضعي، القانونُ الطبيعي. وهو مجموعة من القواعد المرجعية المستمدة من العقل والنظام الطبيعي للأشياء وفطرة الإنسان وليس من الدولة أو المجتمع كما يقول أصحاب المذهب الوضعي. ترجع مقولاته إلى المذاهب الفلسفية الأولى، ولا سيما الإغريقية. ويَعتبر أصحابُ نظرية القانون الطبيعي، أن قواعده تتميز بالثبات والاستمرارية، وأنها تسمو فوق قواعد القانون الوضعي.

في السنة الثامنة للثورة الفرنسية (1789)، ورد في المادة الأولى لمشروع القانون المدني: ’’يوجد قانون كوني ثابت لا يتغير، مصدر كل القوانين الوضعية، إنه العقل الطبيعي نفسه، باعتباره يحكم الناس‘‘. غير أن الصياغة النهائية التي أتت بها مدونة نابليون لسنة 1804 لم تتضمن المادة المذكورة، وقد اختلفت الأسباب التي عرضها أصحابها بشأن ذلك، ليس هنا محل التفصيل فيها.

وفي القرن العشرين، قدّم الفقيه الفرنسي فرانسوا جيني (1861-1959) دراسة، اعتبر فيها أن نطاق القانون الطبيعي ينحصر في مجموعة من المبادئ العامة التي كانت على الدوام مناط توافق وإقرار في مختلف العصور والحضارات، وذلك، مثل إعطاء لكل ذي حق حقه، وواجب احترام الفرد لالتزاماته… كما أن نظريات حقوق الإنسان وحرياته، نجدها في وقنا الحاضر، متأثرة بمقولات القانون الطبيعي[2]، حيث يتجلى واضحا فيها التركيز على حقوق الفرد انطلاقا من أنها حقوق طبيعية.

أما القانون الديني، ويسمى كذلك التشريع السماوي أو القانون الإلهي، فهو ما شرعه الإله لعباده عن طريق أنبيائه، وهو بالتالي يختلف عن القانون الوضعي من حيث أن مصدر الثاني هو الإرادة الإنسانية، بينما مصدر الأول يكمن في الإرادة الإلهية. مع الإشارة إلى أن القانون الوضعي يستمد العديد من قواعده من أحكام القانون الديني، كما هو الحال بالنسبة للقانون المغربي الذي تعتبر الشريعة الإسلامية بالنسبة إليه مصدرا من المصادر الأساسية؛ ونفس الأمر يمكن اعتباره بالنسبة للقانون الكنسي تجاه القوانين الوضعية الغربية، رغم أن التأثير ههنا هو بدرجة أقل.

وعلى العموم، فإن مصطلح ’’قانون‘‘، قد يتّسع معناه أويضيق حسب الوصف المضاف له أو حسب سياقه في الكلام.

والقانون ظاهرة قديمة، تطوّرت وترقّت على منوال ترقي الإنسان في الاقتصاد والعلوم والصناعات. فكانت القوانين للجماعات الأولى، مساوية لحياتها الأولى .. وربما لعب الدين دورا كبيرا في هذا التطور والترقي.

أما ما قيل عن الأنماط القانونية للمجتمعات البدائية، فهو نابعٌ من افتراضات، جلُّها اعتمد على الأبحاث الأنتروبولوجية والإتنولوجية التي انصبت على بعض الجماعات البشرية التي بقيت منعزلة في مناطق من آسيا وأستراليا وأفريقيا والمناطق الشمالية المجاورة للقطب الشمالي بالقارة الأمريكية (الإسكيمو).

ومن ثمة، من الصعب الحصول على رؤية واضحة من موقع زاوية حديثة العهد لتكوين رأي صحيح بشأن طبيعة أنماط المعاملات التي كانت جارية في المجتمعات البدائية القديمة.

أما العصور القديمة ما بعد الكتابة، فالصورة حولها أوضح، إذ وصلتنا منها نصوص قانونية ألقت بعض الضوء على الأنماط القانونية التي كانت سائدة في مجتمعاتها، كنظم الحكم، والأسرة، والزواج، والملكية، والمعاملات التجارية، والممنوع، والمباح، والعقوبات، وغير ذلك. ومن بين تلك النصوص، النص القانوني الطويل الذي وُجد منحوتا على الصخر، وهو لـ ’’حمو رابي‘‘، أحد الملوك البابليين، الذي عاش في سنة 1700 ق.م على وجه التقريب.

فمن نصوص بلاد الرافدين ونصوص مصر والهند والصين القديمة، إلى شريعة موسى، إلى قوانين الإغريق مع دراكون وصولون، إلى قوانين روما المنقوشة على اثنيْ عشر لوحا كانت معروضة على الأنظار في السوق، وصولا إلى شريعة عيسى، ثم قوانين جستينيان أو ’’رسالة أحكام جستينيان‘‘ ، فإلى شريعة الإسلام، ثم إلى العهد الحديث حيث انبعاث العلم وتطور العلوم الإنسانية، قطعت القوانين مراحل من التطور والتداخل والتكامل، إلى أن صارت على ما هي عليه اليوم، ولما ينته بعدُ مسارها في التطور والترقي…

ووجود القانون، إنما يرتبط بحاجة الجماعة للأهداف التي يريدونها من تطبيقه. وهذه الأهداف كثيرة لا تكاد تُحصر. ومنها أربعة أساسية: تحقيق أمن الفرد والجماعة بإقرار نظام للمسؤولية؛ تنظيم عمل السلطة الحاكمة وعلاقاتها بالمحكومين حيث لا بد للجماعة من الحكم الوازع وهو ما يُعرف بالأمن السياسي؛ تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمالية للجماعة وأفرادها على نحو يحافظ على استقرار النظام والمعاملات ويحقق الأمن القانوني؛ والموازنة بين مصالح الأفراد المتضاربة وكذا بين مصلحة الفرد والجماعة.

والقانون كغيره من الظواهر الاجتماعية، يتأثر في مضمونه وأهدافه وتطبيقاته بالتوجهات التي تتبناها الجماعة. فقد تنزع تلك التوجهات نحو المبادئ اللبرالية أو نحو المبادئ الاشتراكية، وقد تطغى عليها الصبغة الدينية، أو قد تنحو منحى التكامل بالأخذ من مختلف المبادئ. وفي جميع الأحوال، فإن طبيعة المقتضيات القانونية وتطبيقاتها تتأثر ببيئتها، فمجال العقد وسلطان الإرادة هو أوسع في النظام اللبرالي مما هو عليه في النظام الاشتراكي، وكذلك الأمر بالنسبة لحق الملكية؛ ومجال الحقوق والحريات قد يضيق أو يتسّع وفق خلفيات الجماعة الدينية والإيديولوجية، وهكذا.

هذا، وإن موضوع المقالات التي ستتبع هذه المقدمة تنصبّ على ’’القانون الوضعي‘‘ وما يتصل به من مفاهيم.

(سعيد منصفي التمسماني/الفهرس)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]ـ سعيد أحمد بيومي. ’’لغة القانون في ضوء علم لغة النص‘‘. ط. 2010 ـ ص. 10

[2] ـ وضع الفقيه الهولندي هوغو غروسيوس (1583-1645) لبنات القانون الدولي انطلاقا من القانون الطبيعي، حيث أسس مع أتباعه ’’مدرسة القانون الطبيعي وقانون الشعوب‘‘ أكدوا فيها على ضرورة ضبط العلاقات بين الدول بالاستناد إلى مقتضيات القانون الطبيعي، وذلك نظرا لغياب قانون دولي عام. لكنهم لم يقفوا عند هذه الحدود، بل تطرقوا إلى مسألة إرادة الإنسان والحريات الفردية معتبرين إياها ضمن الحقوق الطبيعية، فكان لهذه الأفكار أثر على الحركات الفكرية لاحقا ولا سيما على الثورة الفرنسية وجانبها الإيديولوجي.

X