مختصر مفيد: التمييز بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية
تحدثنا في المقال السابق عن أوجه الفروق بين المسؤولية القانونية والمسؤولية الأدبية. وأوضحنا أن المسؤولية القانونية هي الالتزام بإصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقًا للقانون. وأساسها موضوعي، ينصبّ على مسؤولية الشخص أمام شخص آخر أو أمام المجتمع. وهي نوعان: مسؤولية جنائية ومسؤولية مدنية.
وينصرف مفهوم المسؤولية الجنائية إلى التبعات التي يتحملها صاحبها بسبب أعماله المجرّمة بمقتضى نصوص النظام الجنائي الذي يحدد سياسة التجريم والعقاب الذي يتراوح بين الغرامات الزجرية إلى العقوبات السالبة للحرية وصولا إلى عقوبة الإعدام. وهي على هذا النحو تتعلق بالنظام العام ونطاقُها يرتبط بالمجتمع.
أما مفهوم المسؤولية المدنية، فيتعلق بالتبعات التي يتحملها صاحبها بسبب أعمال تستوجب جبر الضرر بواسطة تقديم تعويض للمضرور وفق ما هو منصوص عليه في قواعد القانون المدني. ونطاق المسؤولية المدنية على هذا النحو لا يتعدى الفرد المضرور. وهي نوعان: مسؤولية عقدية ومسؤولية تقصيرية.
التمييز بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية
أوجه الاختلاف بين المسؤوليتين الجنائية والمدنية تتمثّل في فرقيْن رئيسييْن وهما:
أولا
المسؤولية الجنائية تتعدى الفرد إلى المجتمع، على أساس أن الضرر فيها يصيب المجتمع، بينما تقوم المسؤولية المدنية على أساس أن الضرر يصيب الفرد.
وتترتب على هذا التمييز الأول أربع نتائج أساسية، وهي:
ـ الجزاء في المسؤولية الجنائية عقوبة وهو نوع من الضرر المادي يبدأ من الغرامات إلى السجن وحتى الإعدام، أما جزاء المسؤولية المدنية فتعويض.
ـ في المسؤولية الجنائية، النيابةُ العامة هي التي تطالب بالجزاء باعتبارها ممثلة للمجتمع. في المسؤولية المدنية المضرور نفسه هو الذي يطالب بالجزاء لأنه هو صاحب الحق.
ـ لا يجوز الصلح أو التنازل في المسؤولية الجنائية لأن الأمر يتعلق بحق عام للمجتمع. بينما يجوز الصلح والتنازل في المسؤولية المدنية لأن الحق فيها خاص للفرد.
ـ المسؤولية الجنائية مقيدة بمبدأ أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بلا نص. أما المسؤولية المدنية فتنشأ عن أي عمل غير مشروع دون حاجة لنص يحدد تلك الأعمال على سبيل الحصر.
ثانــيــا
الفرق الثاني بين المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية يتمثل في أن عنصر ’’النية‘‘ يُعدّ ركنا في المسؤولية الجنائية، ويؤخذ به لتشديد العقوبة أو تخفيفها. ويجب أن يكون للنية مظهر خارجي يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمجتمع، فهذا هو موقع النية في المسؤولية الجنائية من حيث المبدأ العام. لكن هناك حالات يُؤخذ فيها بجسامة الضرر كمقياس لتحديد المسؤولية الجنائية وبالتالي درجة العقوبة، وهناك أعمال تُعدّ جرائم لأنها ضارة بالمجتمع سواء صحبتها النية أم لم تصحبها، كبعض المخالفات التي لا تشترط فيها النية والجرائم التي يكفي فيها مجرد الإهمال.
أما في المسؤولية المدنية فالنية لا تشترط، وسواء كان العمل غير المشروع عمْدا أو غير عمد، فإن الضرر الذي يحدثه يجب أن يُعَوّض كاملا دون تفريق بين الحالتين.
قيام المسؤوليتان معاً أو مسؤولية دون أخرى
إن قيام إحدى المسؤوليتين لا يتعارض مع قيام المسؤولية الأخرى. فقد يترتّب على العمل الواحد مسؤولية جنائية ومسؤولية مدنية في نفس الوقت، كالقتل والسرقة والضرب والسبّ والقذْف.
ويصحّ ألا يترتّب على العمل إلا إحدى المسؤوليتين دون الأخرى. فتتحقق المسؤولية الجنائية دون المسؤولية المدنية إذا لم يلحق العمل ضررا بأحد كما في بعض جرائم الشروع ومخالفات المرور وحمل السلاح. وتتحقق المسؤولية المدنية دون المسؤولية الجنائية إذا ألحق العمل ضررا بالغير دون أن يدخل ضمن الأعمال المعاقب عليها في القوانين الجنائية.
آثار اجتماع المسؤوليتين
إذا اجتمعت المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية في العمل الواحد، كان التأثير للمسؤولية الجنائية، لأنها الأقوى، ذلك بأنها تتعلق بحق المجتمع بينما تتعلق المسؤولية المدنية بحق الفرد.
وتنتج عن اجتماع المسؤوليتين الآثار الآتية:
ـ من حيث التقادم، فإن عدم تقادم الدعوى الجنائية يوقف تقادم الدعوى المدنية. ولا عكس، فبقاء الدعوى المدنية قائمة لا يمنع من تقادم الدعوى الجنائية.
ـ من حيث الاختصاص، تتبع الدعوى المدنية الدعوى الجنائية، وبالتالي، إذا ترتّب على العمل الواحد المسؤوليتان الجنائية والمدنية أمكن رفع الدعوى المدنية أمام المحكمة الجنائية. وهذا ما نصت عليه المادة التاسعة من قانون المسطرة الجنائية المغربي: ((يمكن إقامة الدعوى المدنية والدعوى العمومية في آن واحد أمام المحكمة الزجرية المحالة إليها الدعوى العمومية)).
ـ من حيث سير الدعوى، فإن رفع الدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية يوقف الدعوى المدنية إلى أن يُبَتّ في الدعوى الجنائية Le criminel tient le civil en état.
ـ من حيث قوة الأمر المقضي، فإن الحكم الذي تصدره المحكمة الجنائية يحوز قوة الأمر المقضي. وعليه، فإن المحكمة المدنية تتقيد بما أثبتته المحكمة الجنائية في حكمها من وقائع، دون أن تتقيد بالتكييف القانوني لهذه الوقائع.
(المصدر: عبد الرزاق أحمد السنهوري/الوسيط في شرح القانون المدني الجديد-المجلد الثاني2- الفقرات: 506 إلى 508)
مقالات ذات صلة: