الفهرس

أبو حامد الغزالي

 ’’ اعلم: أن الناس اختلفوا في حدّ العقل وحقيقته وذُهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة فصار ذلك سبب اختلافهم. والحق الكاشف للغطاء فيه أن العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان ـ كما يطلق اسم العين مثلا على معان عدة ـ وما يجري هذا المجرى فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حدّ واحد بل يفرد كل قسم بالكشف عنه. 

فالأول: الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حدّ العقل: إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية، وكأنه نور يقذف في القلب، به يستعد لإدراك الأشياء، ولم ينصف من أنكر هذا، وردّ العقل إلى مجرّد العلوم الضرورية فإن الغافل عن العلوم و النائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم. وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية، فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية، ولو جاز أن يسوّى بين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسية، فيقال: لا فرق بينهما إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علوما وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوي بين الحمار و الجماد في الحياة، ويقال: لا فرق إلا أن الله عزّ وجلّ يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة، فإنه لو قدر الحمار جمادا ميتا لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه، فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد. وكما وجب أن يقال: لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة، فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبّر عنها بالعقل وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور و الألوان بصفة اختصت بها وهي الصقالة. وكذلك العين تفارق الجبهة في صفات وهيئات بها استعدت للرؤية، فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية، و نسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها، كنسبة نور الشمس إلى البصر، فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة. 

الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، و أن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حدّ العقل: إنه بعض العلوم الضرورية كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهو أيضا صحيح في نفسه، لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلا ظاهر وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال لا موجود إلا هذه العلوم. 

الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن من حنّكته التجارب وهذبته المذاهب يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة يقال إنه غبي غير جاهل، فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا. 

الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلا من حيث إن إقدامه و إحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة، وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان. فالأول: هو الأس و السنخ و المنبع. والثاني: هو الفرع الأقرب إليه. والثالث: فرع الأول والثاني، إذ بقوة الغريزة و العلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب. والرابع: هو الثمرة الأخيرة وهي الغاية القصوى، فالأولان بالطبع و الأخيران بالاكتساب. ولذلك قال علي كرّم الله وجهه: 

رأيت العقــــــل عقليـــــــــن***فمطبـــــــوع و مسمـــــــوع

ولا ينفـــــــع مسمــــــــــوع*** إذا لـــم يكـــــــن مطبـــــــوع

كمــــا لا تنفـــــــع الشمـــــــس***وضــــوْءُ العيـــــــن ممنــــوع‘‘

ـــــــــــــــــــــ

أبو حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى 2005 ص. 100ـ101

X