الأساس العلمي الذي صاغه رجل القانون السنهوري لترتيب مصادر الالتزام ومصادر الحقوق بوجه عام وكيف أنها ليست مقصورة على الحقوق الشخصية فقط بل تتجاوزها إلى الحقوق العينية وكل العلاقات القانونية
عبد الرزاق أحمد السنهوري، رجل القانون اللامع، والقيمة المضافة المتميزة للفكر القانوني، وأحد مراجعه الأساسية، ولاسيما في مجال القانون المدني بمؤلفه المكون من أربعة عشر مجلدا تحت عنوان ’’الوسيط في شرح القانون المدني الجديد‘‘ الذي ما يزال كالعين التي لا تنضب، ينهل منها الطلبة والأساتذة والباحثون كلما راموا قضية من قضايا القانون المدني.
إننا نريد ها هنا، أن نعرض ما كتبه الأستاذ الجليل حول مصادر الالتزام ومصادر الحقوق بوجه عام من وجهة تحليله الخاص، وهو تحليل –في الحقيقة- يلخص في فقرات الأفكار الجوهرية لمصادر الالتزام الحديثة وأصولها المنطقية والأساس العلمي لترتيبها، ويفيد إفادة لا غنى عنها طالبَ القانون والمهتم بشؤونه.
وفي هذا، كتب الأستاذ السنهوري رحمه الله ما يلـــــي:
أساس علمي لترتيب مصادر الالتزام ومصادر الحقوق بوجه عام
((تبيّن مما تقدم أن التقنيات الحديثة جعلت مصادر الالتزام خمسة: العقد والإرادة المنفردة والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون.
وهذا الترتيب تغلب فيه الناحية العملية، وينقصه الأساس العلمي الذي يرتكز عليه. فلا يكفي أن نقول إن هذه مصادر الالتزام، بل يجب إرجاع هذه المصادر إلى أصول علمية منطقية.
ونحن إذا أردنا أن نرجع مصادر الالتزام إلى ترتيب منطقي، وفهمنا أن المراد بالمصدر هو السبب القانوني الذي ينشئ الالتزام، وجدنا عند التأمل أن الأسباب القانونية التي تنشئ الالتزامات ليست مقصورة على هذه الدائرة –دائرة الحقوق الشخصية- بل هي تتناول أيضا الحقوق العينية، بل تتجاوز قانون الأموال إلى قانون الأسرة، بل هي تحلق في سماء القانون، وتنشئ كل العلاقات القانونية أو تؤثر فيها، سواء كانت هذه العلاقات ترجع إلى القانون الخاص أو القانون العام.
ومن الواضح أن السبب الذي ينشئ علاقة قانونية أو يؤثر فيها هو أمر يجدّ فيحدث تعديلا في العلاقات القانونية الموجودة. ولو كان لنا أن نتصور أن الأرض كفت عن الدوران، وأن كل مخلوق عليها ركن إلى السكون، أمكن أن نقول إن العلاقات القانونية تبقى على حالها دون تغير في الوقت الذي تجمد فيه كل حركة. فإذا حدثت بعد ذلك حركة أية حركة، فقد يكون من شأنها أن تعدل في هذه العلاقات. هذه الحركة التي وقعت نسميها بـ ((الواقعة)). فإذا كان من شأنها أن تنتج أثرا قانونيا سميت بـ ((الواقعة القانونية)) (fait juridique). وهي إما أن تكون راجعة لإرادة الإنسان، وإما ألا ترجع لهذه الإرادة.
فهبوب العواصف، وانفجار البراكين، ودوران الأرض، كل هذه وقائع لا ترجع لإرادة الإنسان؛ بل هي من عمل الطبيعة. وقد تؤثر في العلاقات القانونية الموجودة: هبوب العواصف أو انفجار البراكين قد يكون قوة قاهرة تعفي المدين من التزامه. ودوران الأرض حول نفسها يُعيّن ساعات تنفيذ الالتزام في عقد العمل. ودورانها حول الشمس يحصي عدد السنين اللازمة للتملك بالتقادم.
والوقائع التي ترجع لإرادة الإنسان أكثرها أعمال مادية، قد يريد صاحبها أن يحدث بها أثرا في الروابط القانونية الموجودة أو لا يريد ذلك. فهو يأكل ويمشي ويتحدث ويعاشر الناس ويجاملهم، وهو لا يريد عادة من وراء هذا أن يؤثر في علاقاته القانونية، ولكن هذه العلاقات قد تتأثر دون أن تتجه إرادته إلى شيء من ذلك. فإذا أكل شيئا لا يملكه أصبح مسئولا عن تعويض المالك. وإذا مشى دون حيطة فأتلف شيئا عليه أن يعوض عما أتلف. وإذا تحدّث فذكر مثالب للغير فقد يكون هذا سباً أو قذفاً يجعله مسئولا. وإذا جامل الغير فقام ببعض شؤونهم فقد يجد نفسه ملزما بإتمام ما بدأ به ويكون دائنا لهذا الغير بمقدار ما كلفه العمل. ويلاحظ أنه في هذه الوقائع المتقدمة قد قام الشخص بأعمال مادية اختيارية، أراد النتائج التي تترتب عليها في بعض الفروض. ولكنه في أكثر الفروض لم يرد شيئا من هذه النتائج.
وهناك من الوقائع التي ترجع لإرادة الإنسان ما ليس بأعمال مادية، بل هي أعمال إرادية. ونريد بالعمل الإرادي هنا عمل الإرادة المحضة تتجه إلى إحداث نتائج قانونية معينة. مثل هذه الوقائع تسمى أعمالا قانونية (actes juridiques) تمييزا لها عن الأعمال المادية. ومنها ما يرجع لإرادة الشخص منفردا كالوصية والوقف والوعد بجائزة (الجعالة) ويسمى بالعمل القانوني الصادر من جانب واحد (acte juridique unilatéral)، ومنها ما يرجع لإرادته مقرونة بإرادة طرف آخر، وهذا هو العقد (acte/contrat juridique bilatéral).
مـن ذلك نـرى أن الوقـائـع هـي مصـادر الروابــط القانـونيـــة. والـوقائـع إمـا أن تكــون طبيعيـة (faits naturels) أو اختيارية (faits volontaires). والوقائع الاختيارية إما أن تكون أعمالا مادية (actes matériels) أو أعمالا قانونية (actes juridiques). والأعمال القانونية إما أن تكون صادرة من جانب واحد (actes unilatéreux) أو صادرة من الجانبين (actes bilatéraux, contrats) والقانون من وراء كل ذلك محيط، فهو الذي يحدد الآثار القانونية التي تترتب على الوقائع والأعمال جميعاً.
ويلاحظ في هذا الترتيب أننا تدرجنا من الأعم إلى الأخص. فالوقائع القانونية تشمل الوقائع الطبيعية والوقائع الاختيارية، والوقائع الاختيارية تشمل الأعمال المادية والأعمال القانونية. والأعمال القانونية تشمل الأعمال الصادرة من جانب واحد والأعمال الصادرة من الجانبين.
تطبيق هذا الترتيب على مصادر الحقوق العينية
المعروف أن أسباب كسب الحقوق العينية سبعة: الاستيلاء والميراث والوصية والالتصاق والعقد والشفعة والحيازة.
فإذا رتبنا هذه الأسباب على النحو الذي قدمناه كان منها الوقائع الطبيعية، وهي الميراث وأسباب الأخذ بالشفعة والتقادم. ومنها الأعمال المادية، وهي الاستيلاء والالتصاق والحيازة. ومنها الأعمال القانونية، بعضها صادر من جانب واحد وهي الوصية وإعلان الرغبة في الأخذ بالشفعة، وبعض آخر عمل صادر من الجانبين، وهو العقد.
تطبيق الترتيب على مصادر الالتزام
ونطبق هذا الترتيب العلمي على مصادر الالتزام. فالوقائع الطبيعية كالجوار والقرابة يرتب عليها القانون التزامات معينة ترجع للعدالة والتضامن الاجتماعي. لذلك يصح إسناد هذه الالتزامات للقانون مباشرة فيكون هو مصدرها.
والأعمال المادية قسمان: القسم الأول أعمال غير مشروعة تصدر من المدين فتفقر الدائن دون حق فيلتزم المدين بالتعويض، ومصدر هذا الالتزام هو العمل الضار. والقسم الثاني أعمال مشروعة تغني المدين على حساب الدائن فيلتزم المدين أن يرد ما اغتنى به، ومصدر هذا الالتزام هو العمل المادي النافع.
والأعمال القانونية إما أن تكون صادرة من الجانبين وهذا هو العقد، أو صادرة من جانب واحد وهذه هي الإرادة المنفردة.
ومن ذلك نرى أن العقد والإرادة المنفردة تتضمنها الأعمال القانونية. وهذه يقابلها الأعمال المادية ويدخل فيها العمل غير المشروع والإثراء بلا سبب. وكل من الأعمال القانونية والأعمال المادية وقائع اختيارية تقابلها الوقائع الطبيعية، وهذه هي التي تنسب للقانون)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المصدر: عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد الأول –نظرية الالتزام بوجه عام- مصادر الالتزامات- ط 2010، من الصفحة 141 إلى الصفحة 146).
مقالات ذات صلة: