رحل خالد الجامعي عن دنيانا ليرتاح .. ولعله ينظر الآن إلينا مشفقا على حالنا وعلى ما نتخبط فيه من حيرةٍ وهوانٍ وعجزٍ عن اتخاذ القرار الشّجاع السليم .. وهو يشعر بحالنا، لأنه كان مثلنا متعبا مرهقا، ترى التعب والإرهاق وقد نالا من ملامح وجهه أثناء ظهوره في كل المناسبات والندوات الصحفية التي كان يجريها؛ لكنك كنت تحس أن تعب الرجل بسبب المرض أو بسبب التزامه الفكري والأخلاقي، لم ينل من عزيمته القوية وتماسكه الفكري إلى أن رحل عنا إلى دار البقاء .. رحمه الله تعالى برحمته الواسعة التي شملت كل شيء.
لا نريد أن نتطرق في هذا المقال إلى مسارات الصحفي والمناضل خالد الجامعي، و لا أن ندخل في سرديات ليس هنا مكان التفصيل فيها، فقط نريد أن نؤكد على ميزتين أساسيتين تحلى بهما الراحل خلال مشواره الطويل جعلتاه يتميز عن معظمنا، وهما: الشجاعة والإخلاص.
نعم، فقد كان خالد الجامعي رجلا شجاعا بكل ما تحمله الكلمة من معان، وما ميّز شجاعته أنها تحقّقت في زمن أضحى فيه الجبن والنفاق عملتين متداولتين على نطاق واسع.
لقد مارس الراحل ’’فقه الشجاعة‘‘، في أحلك الليالي، فكان مطمئنا غير آبه كي يقول للفزّاعة التي لطالما أرعبت كل المغاربة وهي في عز قوتها وجبروتها: ’’شكون نتا؟؟‘‘، والمراد من السؤال: ’’من أنت حتى تُسكتني؟‘‘.
ولو أن عددا معقولا من المغاربة التزموا بما التزم به خالد حينها من قواعد ’’فقه الشجاعة‘‘ وقالوا للصدر الأعظم ما قاله له الراحل آنذاك، لربما كنا اليوم نعيش ظروفا أخرى .. فخالد كان شديد الحرص على الانحياز للمظلوم وقول الحق من منظوره، وهذه في نظرنا أعظم الوظائف التي يقوم بها الملتزم بقضايا وطنه، وهي من أخطرها؛ ذلك لأن أقوى ضابط للأخلاق، كما قال الكواكبي، ’’النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ، أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع، وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة من الغيورين وقليلٌ ما هم…‘‘، ولعل خالدا كان من ضمن هذه القلة، في زمن ألِفت فيه الكثرة الجبنَ والرياءَ والنفاق.
ولعل الذين تابعوا تصريحات خالد الجامعي ومنهج نقده، قد لاحظوا أن الرجل لم يكن من أولئك الذين يسلكون مسارات ملتوية ويبحثون عن مشاجب مصطنعة ليعلقوا عليها مسؤولية الآخرين لتضيع في النهاية الحقائق بعد أن قلبوها في أذهان الناس؛ إنما كان رجلا يمتلك الشجاعة لتسمية الأشياء بمسمياتها والإشارة إلى المسؤول مباشرة، دون أن يبذل أدنى جهد للتستر وراء مصطلحات غامضة كـ ’’المخزن‘‘ و ’’المغرب العميق‘‘ وما إلى ذلك من العبارات الغامضة التي كُتِبت في شأنها مؤلفات واستُنزفت في سبيلها طاقات ولم تزد المغاربة إلا حيرة، لسبب بسيط يكمن في أن رواج هذه المصطلحات وأدبياتها إنما هو من باب الخوف من تسمية الأمور بمسمياتها ومساءلة صاحب المسؤولية.
أما الإخلاص، وهو الميزة الأخرى التي تميز بها خالد الجامعي، فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالشجاعة، لأن الراحل كان بإخلاصه يحصّن شجاعته من شوائب الرياء والتهور والخيانة. ولعل أصالة شجاعته، تكمن على وجه الخصوص في إخلاصه للوطن ومصالحه العليا، وفي وطنيته وحرصه الشديد على عقد الدولة وبقائها ووحدتها وجعلها فوق الأشخاص والمزايدات والمصالح الحزبية والفئوية؛ لذلك لم نر خالدا يستقوي بالخارج لانتقاد الداخل، بل إنه أدى رسالته كصحفي ملتزم بقضايا وطنه من الداخل، واستنكر من الأفعال ما يجب أن يُستنكر من الداخل، وتحمّل في سبيل ذلك ما يتحمله الأمين الشجاع، فكان يستحق بجدارة لقب المواطن ’’المناضل‘‘، ولذلك نال احترام خصومه قبل مُحبيه، لأنه كان مغربيا وطنيا خالصا مخلصا، لا يضره من عاداه وظلمه، ولأنه لم يكن يطلب الثأر لنفسه، وإنما الإصلاح والخير للوطن، فهذا كان ديدنه، وهذا لعمري قلما تجده أو تسمع به في هذه الأيام.
إننا عندما نستحضر خالدا الجامعي بعد أن رحل عنا ونكتب عنه هذه السطور المتواضعة، إنما نكتب في الحقيقة عن أنفسنا، عن مغربنا، وعنما كان يتمناه له الراحل من عدل وديمقراطية وخير، وما نتمناه له نحن من أن يكثر فيه أمثال خالد حتى تعم الشجاعة ويعم الإخلاص ويَبيد فيه الجبن والخيانة.
إنا نعزي أسرة الفقيد، وأهل المغرب، وكل الشرفاء في العالم، ونقول ما قال الإمام الشافعي:
إني معزيكَ لا أنيِّ على ثقة
مِنَ الخُلودِ، وَلكنْ سُنَّة الدِّينِ
فما المُعَزِّي بباقٍ بعدَ صاحِبِهِ
ولا المُعَزَّى وإنْ عاشَا إلى حَينِ
ــــــــــــــــــــ