ما مضمون هذا الموقف؟ وما هي قضاياه الشائكة وطبيعته القانونية؟ هل هو ملزم للحكومات القادمة؟

في ظل سياق دولي شديد التوَتُّر، تهيمن على ساحته حرب أوكرانيا وتداعياتها، صدر بلاغٌ للديوان الملكي المغربي في الثامن عشر من الشهر الجاري، أوردت نصَّه الوكالة الرسمية للأنباء، مبتدِئا بالجملة الآتية: “إسبانيا تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.

هذه الجملة التي جاءت في رسالة بعثها الرئيس الإسباني بيدرو سانشيز إلى الملك المغربي محمد السادس، كانت بمثابة العصا التي شقّت بحر الأزمة بين المغرب وإسبانيا لتُحْدث منفرجا يقود نحو تحسُّن العلاقات  بين البلدين بعد أزمة استمرت أزيد من عامين.

وجوهر الأزمة ليست أعراضها التي كانت تظهر وتختفي من وقت لآخر، إنما  هو ما عبّر عنه وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، في تصريح (يونيو/حزيران 2021) قال فيه إن  أصل الأزمة مع إسبانيا ليس ملف إبراهيم غالي، بل انهيار الثقة بين البلدين والمواقف العدائية لمدريد بشأن ملف الصحراء.

هل كان على الحكومة الإسبانية أن تنتظر كل هذا الوقت لإصدار ’’موقف‘‘ من هذا النوع لوضع حدٍّ لأزمة خطيرة؟ ما الذي تغير؟ وما هي التوافقات بين المغرب وإسبانيا والعوامل الدولية والداخلية لكلا الطرفين التي دفعت في هذا التوقيت بالذات إلى اتخاذ الحكومة الإسبانية لهذا الموقف؟ وما هو الدور الأمريكي في هذا الملف؟ وهل ساهم الوضع الاقتصادي الإسباني المرتبك والمتأثر بإضرابات قطاعات النقل والصيد البحري والفلاحة بالإسراع في تحديد التموقع الجديد لمدريد؟

مهما كانت الأسباب، فيبدو أن رسالة سانشيز كان لها وقعها السياسي الذي تُرجم ببلاغ للديوان الملكي المغربي، وبلاغ لوزارة الشؤون الخارجية المغربية أُعْلِن من خلاله عن الزيارة  التي سيقوم بها وزير الشؤون الخارجية  خوسي مانويل ألباريز ، للرباط، ستكون تمهيدا لبرمجة زيارة رئيس الحكومة الإسبانية إلى المغرب في وقت لاحق. أما البلاغ الثالث، فقد أصدرته الحكومة الإسبانية ونشرته في موقعها أشارت فيه إلى تدشين مرحلة جديدة مع المغرب.

أسئلة حول مضمون الموقف الإسباني الجديد

ذهبت بعض وسائل الإعلام المغربية إلى إعطاء تفسيرات لرسالة الرئيس الإسباني تتجاوز أبعادها السياسية والقانونية.

وبعيدا عن أي تفسير أو تأويل مبالغ فيه، وبناء على ما جاء في رسالة سانشيز  التي نشرتها صحيفة الباييس الإسبانية (23 مارس/آذار الجاري)، وأوردت مقتطفات منها وكالة الأنباء المغربية، وعلى البلاغ الذي أصدرته الحكومة الإسبانية في موقعها، يمكن اختصار الموقف الإسباني الجديد في النقاط الآتية:

ـ اعتراف الحكومة الإسبانية بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب؛

ـ اعتبارها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف؛

ـ  بناء علاقة جديدة، تقوم على الشفافية والتواصل الدائم،  والاحترام المتبادل والاتفاقيات الموقعة بين الطرفين؛

ـ الامتناع عن كل عمل أحادي الجانب؛

ـ التعهد باحترام إسبانيا على الدوام لالتزاماتها وكلمتها؛

ـ التعاون بين البلدين من أجل التصدي للتحديات المشتركة، ولاسيما التعاون من أجل تدبير تدفقات المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛

ـ استعادة السّير الطبيعي لحركة الأشخاص والبضائع؛

ـ العمل على  اتخاذ هذه الخطوات بناء على خارطة طريق  تضمن الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين.

هذه، إذن، هي النقاط الأساسية التي احتواها الموقف الإسباني الجديد في علاقته مع المغرب والتي قيل عنها في بعض وسائل الإعلام الإسبانية، إن الرئيس سانشيز قد أشرف  على تتبعها وصياغتها.

وللتذكير، يبدو أنها لا تبتعد عن النقاط التي أشار إليها الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة الذكرى الـ 68 لـ”ثورة الملك والشعب”، حيث قال عند تطرقه لموضوع الأزمة بين إسبانيا والمغرب: ’’إننا نتطلع، بكل صدق وتفاؤل لمواصلة العمل مع الحكومة الإسبانية ورئيسها بيدرو سانشيز، من أجل تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقات بين البلدين، على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات‘‘. موضّحا، أنه تمّ الاشتغال ’’مع الطرف الإسباني، بكامل الهدوء والوضوح والمسؤولية‘‘، وأنه تابع شخصيا، وبشكل مباشر، سير الحوار، وتطور المفاوضات.

وإلى حدود الآن، لا يمكن تحديد كيفية ترجمة الحكومة الإسبانية عمليا دعمها للمقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي؛ ولا يمكن التنبؤ بالأبعاد الحقيقية للموقف الإسباني في هذا الموضوع إلا برصد الخطوات القادمة المحددة في خارطة الطريق وتتبعها.

كما أن مسألة ’’احترام الوحدة الترابية للبلدين‘‘، تظل غير واضحة. فإذا سلمنا أن ذلك يعني احترام إسبانيا للوحدة الترابية المغربية بما فيها إقليم الصحراء، فالمقابل يعني احترام المغرب للوحدة الإسبانية بما فيها سبتة ومليلية اللتين تعتبرهما الحكومة الإسبانية جزءا لا يتجزأ عن أراضيها. ومن ثمة، يجوز التساؤل حول دلالات الجولة التي قام بها الرئيس الإسباني (23 مارس/آذار الجاري) إلى كل من سبتة ومليلية في هذا التوقيت بالذات وحول إثارته لمسألة ’’احترام الوحدة الترابية للبلدين‘‘ في إطار العلاقة الجديدة وذلك عندما سُئِل في سبتة من طرف أحد الصحفيين حول الضمانات بشأن ما إذا كان المغرب سيواصل مطالبه ذات الصلة بالمدينتين.

ومسألة أخرى تحوم حولها بعض الأسئلة، وتتعلق بما جاء في رسالة سانشيز بالدعوة إلى ’’الامتناع عن كل عمل أحادي الجانب‘‘. فالمتتبع للشأن الإسباني، يعلم أن المقصود بذلك قضية ترسيم الحدود، حيث أبدت إسبانيا اعتراضها في عدة مناسبات على قيام المغرب بصفة أحادية في مارس/آذار 2020 بإصدار قانونين يتعلقان بتعيين  حدود المياه الإقليمية البحرية المغربية في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وتحديد المنطقة الاقتصادية والجرف القاري للمملكة .. فهل ثمة تفاهمات بين البلدين بشأن هذا الموضوع؟ وهل ستتم مراجعته؟

والخلاصة، أن التفاهمات الإسبانية المغربية لبناء مرحلة جديدة من العلاقات، لا بدّ وأنها تناولت جميع القضايا العالقة بين البلدين؛ بدءا بملف الصحراء، إلى ملف سبتة ومليلية والجزر المغربية التي تسيطر عليها إسبانيا، مرورا بملفي الهجرة والتهريب، وصولا إلى ملف تعيين الحدود البحرية.

فهل يلجأ الطرفان إلى تدبير الأزمة وإدارة ملفاتها بالتدريج وعن طريق آلية الاتفاقيات للخروج من منطقة النزاع إلى منطقة التفاهم والبحث عن الحلول والبدائل والمصالح المشتركة التي تقتضيها ضرورات ’’الجغرافيا والمصالح الاقتصادية والسياسية‘‘؟

طبيعة الموقف الإسباني

الموقف الإسباني في حد ذاته لا يخرج عن إطار منظمة الأمم المتحدة، لأن هذه الأخيرة لا تستبعد المقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي كحل واقعي وجدي يحظى بتأييد عدة دول.

أما من الناحية القانونية، يعتبر الموقف الإسباني الجديد والمُجَسَّد في الرسالة التي بعثها الرئيس بيدرو سانشيز إلى الملك محمد السادس غير ملزم سواء للحكومة الحالية أو لمن سيأتي بعدها. وهذا ما عبّرت عنه جميع أحزاب المعارضة في جلسة الاستماع لوزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس أمام اللجنة البرلمانية المكلفة بالشؤون الخارجية (23 مارس/آذار 2022). وهنا تجب الإشارة، إلى أن حزب بوديموس اليساري المنتمي إلى حكومة الائتلاف التي يترأسها بيدرو سانتيش، قد أعلن بدوره رفضه لمضمون الرسالة التي بعثها سانشيز للملك المغربي، ونتيجة لذلك يصبح موقف الحكومة الإسبانية على مستوى البرلمان تجاه ملف الصحراء مدعَّما فقط بـ 120 عضوا ينتمون للحزب الاشتراكي من أصل 349 عضوا.

من هذا المنطلق، إذن، يمكن اعتبار رسالة سانشيز إلى حدود الآن بمثابة إعلان عن النوايا، كونها لا تكتسي طابعا ملزما  ولم تصدر في صيغة قانونية تصبغ عليها طابع الإلزام.

والصيغ القانونية المعتمدة في النظام القانوني الإسباني تصدر إما على شكل اتفاقية دولية بعضها يتطلب موافقة البرلمان، كالاتفاقيات السياسية واتفاقيات ترسيم الحدود (الفصل 94 من الدستور الإسباني)، أو على شكل نص قانوني يصدره البرلمان، أو على شكل مرسوم حكومي (Decreto) يصدره المجلس الوزاري؛ ثم يُسْتتبع ذلك بنشر النص المعتمد في الجريدة الرسمية الإسبانية.

والسؤال الذي قد يُطرح في هذا الصدد، يتعلق بمدى إمكانية تحوّل الموقف الإسباني، مع مرور الوقت، إلى قرار ملزم للحكومات القادمة؟

والجواب، أن هذه الإمكانية واردة في سياق انخراط الطرفين المغربي والإسباني في خارطة طريق تترتب عليها اتفاقات والتزامات متبادلة وملزمة للدولتين.

فالفصل 97 من الدستور الإسباني، ينص على أن الحكومة ’’تقود السياسة الداخلية والخارجية للدولة والإدارة المدنية والعسكرية، وتمارس السلطة التنفيذية والسلطة التنظيمية وفقا للدستور والقوانين‘‘.

وضمن الفصل الدستوري المذكور، تستطيع الحكومة الإسبانية تحريك عدة أوراق للدفع بموقفها تجاه المغرب من موقع السكون إلى موقع التفعيل.

فعلى المستوى الدولي، تستطيع الحكومة الإسبانية المساهمة بشكل فعال في صياغة قرارات دولية تكون في صالح المغرب سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو على مستوى منظمة الأمم المتحدة. وهذه القرارات بمجرد صدورها تكتسي طابعا إلزاميا دوليا.

ومعلومٌ أن إسبانيا تمتلك بعض الأوراق المؤثرة في ملف الصحراء، باعتبارها القوة المستعمرِة السابقة، والحاضنة التقليدية لفعاليات البوليزاريو وجمعياته، وأنها تُعتبر عضوا  في مجموعة أصدقاء الصحراء التي تضم الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ودولا أخرى، وهي المجموعة التي تعد مشاريع القرارات ذات الصلة التي تعرض على مجلس الأمن…

وتستطيع الحكومة الإسبانية استعمال آلية الاتفاقيات التي يخَوِّلها لها القانون، لا سيما في المجال الاقتصادي، بإبرام اتفاقيات اقتصادية مع المغرب يكون لها تأثير في توجيه العلاقات السياسية نحو الأهداف المسطرة في خارطة الطريق التي يسلكها الطرفان.

وإجمالا، ثمة عدة آليات وأوراق تمتلكها السلطة التنفيذية ضمن اختصاصاتها الدستورية لتوظيفها وجعْل موقفها تجاه المغرب، وتجاه ملف الصحراء على وجه الخصوص، موقفا مُلزما للحكومات القادمة كيفما كان لونها السياسي، أو على الأقل موقفا يصعب التحلل من ما ترتب عليه من نتائج والتزامات.

ثم إن الموقف الحالي لأكبر حزب في المعارضة الإسبانية، وهو الحزب الشعبي، لا يخلو من مسحة سياسية/انتخابية، سرعان ما سيتغير في حال استلامه للسلطة. وهو موقف موجه للاستهلاك المحلي، ويتناقض مع موقف حكومة الحزب الشعبي التي كان يترأسها ماريانو الراخوي، والتي كان طرْحها في قضية الصحراء متقاربا إلى حد كبير مع ما تطرحه حكومة سانشيز في الوقت الحالي. وقد أبدى هذا الاتجاه مانويل غارسيا مارغايو وزير الخارجية السابق في عهد حكومة راخوي، وعبّر عن موقفه المؤيّد لمقترح الحكم الذاتي في عدة تصريحات ومقالات صحفية. وفي نفس الاتجاه سارت آنا بلاسيو التي تولت حقيبة الخارجية في عهد حكومة الرئيس خوسي ماريا أثنار، والتي تُعتبر من الشخصيات السياسية الإسبانية المقربة إلى دوائر القرار في المغرب والمعروف عنها تأييدها الكامل للموقف المغربي بشأن قضية الصحراء.

وفي جميع الأحوال، تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية القوة الدولية الأكثر تأثيرا في هذا الملف، لكن ذلك لا ينفي الدور الأساسي للجبهة الداخلية التي تظل في جميع الظروف الفيصل الحاسم في مصير قضية الوحدة الترابية للمغرب.

(الفهرس/سعيد منصفي التمسماني)

X