سعيد منصفي التمسماني
قد لاحظ الناس، خلال الأيام الأخيرة، ردّات الفعل الكثيرة التي أثيرت بشأن ما قالته دار الإفتاء المصرية حول الاحتلال العثماني لإسطنبول، والجدل الكبير الذي تبع ذلك في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ولعلك لاحظت كيف صِرنا نوظف المواضيع الدينية لأغراض سياسية صرفة بهدف تغليب فريق على آخر و إحداث الفرجة الإعلامية، وكيف أضحى الناس مستقطَبين، جيئة وذهابا، بما يستهويهم به هذا أو ذاك، دون أن تكون لديهم القدرة على التمييز بين ما هو حَدَثٌ حقيقي يستوجب الاهتمام وبين ما هو صناعةٌ إعلاميةٌ سياسيةٌ هي للاستهلاك المحلي ليس إلا، و هي أقرب إلى التضليل منها إلى الإفادة والتنوير. ثم قارن بين ما كان عليه المسلمون الأوائل من توظيف للمواضيع الدينية بهدف التوحد والتمكن والتوسع في الأرض، وما عليه نحن اليوم من توظيفٍ لهذه الأمور بغية التقسيم وتجزيء المُجزأ والنيل من بعضنا البعض، لتفرز لك المقارنة في آخر المطاف، وبشكل بسيط، أن الفريق الثاني، بما يدَّعيه من فهم وحداثة، قد بلغ أعلى درجات الغباء !!
* * *
الفَتْحُ، حسب ما ورد في “لسان العرب‘‘، نقيض الإغلاق، فيقال: فَتَحه يفْتَحه فَتْحاً و افْتَتَحه وفتَّحه فانْفَتَحَ وتفتّحَ. والفَتْح، تختلف معانيه حسب سياق الكلام. فيراد به النصر، مثلما هو في حديث الحديبية: {أهو فَتْحٌ؟}، أي نصرٌ. ويقصد به يَوْمُ القيامة حسب بعض المفسرين، كقوله عزّ وجلّ: ﴿قُل يوم الفتح لا ينفَعُ الذين كفروا إيمانهم ولا هم يُنظَرون﴾. ويقصد به الحكم في الخصومات لقوله سبحانه مخبرا عن شعيبٍ: ﴿ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنتَ خيْرُ الفاتحين﴾. والاسْتِفْتاح، هو الاسْتِنْصار، وفي الآية: ﴿إن تَسْتفتِحوا فقد جاءكم الفَتْح﴾.
والفتح ليس أصلا من أصول الدين أو قاعدة فقهية لنبني عليهما بناء ثابتا مثلما هو الحال مع مواضيع أخرى في الدين، كالجهاد مثلا. إنما هو لفظٌ ورد في العديد من الآيات، والأحاديث، والأخبار، واختلفت معانيه ومقاصده باختلاف السياقات. ففي سورة الفتح، التي نزلت عند رجوع النبي ﷺ من صلح الحديبية، كان المقصود من اللفظ، هو: النصر. والنصر هنا، لم يكن نصرا ماديا عن طريق الحرب وإحراز الغنائم، إنما كان معنويا خالصا عن طريق إبرام اتفاق صلح، بالرغم من أن شروط صلح الحديبية قد بدت للمسلمين في بادئ الأمر وكأن فيها غبنا لهم، لكونهم لم ينتبهوا لدلالات الحدث، إلى أن جاء قوله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مُبينا. ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر. ويُتمّ نعمته عليك ويهديَك صراطا مستقيما. وينصرك الله نصرا عزيزا﴾. وفي سورة النصر، ورد لفظ الفتح مرادفا للنصر: ﴿إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربّك واستغفره، إنه كان توابا﴾. وبصرف النظر عن اختلاف المفسرين والرواة حول تاريخ نزول هذه السورة، فإن معانهيا تكاد تدور حول حدثين مهمين: توافد القبائل على النبي ﷺ، والفتح السلمي والمثالي لمكة الذي سيعقب الحدث.
وفي سياقات أخرى، قد يأتي الفتح مرادفا للاستيلاء على أرض وضَمِّها. وأما الأرضون التي استولى عليها المسلمون، فهي ـ وفق الماوردي ـ ثلاثة أقسام: أحدها ما مُلك عنوة وقهرا، وثانيها ما مُلك عفوا لانجلاء من كان فيها خوفا، وثالثها ما تم الاستيلاء عليه صُلحا. وأما أسباب الحروب، فقد لخّصها ابن خلدون بإيجاز في ثلاثة أمور: إما غَيْرَةٌ ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضبٌ لله ولدينه، والثالث هو المُسمّى في الشريعة بالجهاد. والفتح، إنما يصدق من باب الجهاد ورفع الظلم ونشر الإسلام والرحمة. لكن المعنى انحرف تدريجيا عن أصوله، حتى استعمله المسلمون في مواطن أخرى وضد بعضهم البعض .. فاستعمله العباسيون ضد الأمويين، ثم وجدنا مؤرخي الموحدين، كالبيذق و ابن القطان وابن صاحب الصلاة قد استعملوه ضد المرابطين، واستعمله المرينيون ضد الموحدين، والسعديون ضد الوطاسيين، وهكذا.
ولم يُبوّب مؤرخو الإسلام الأوائل تصانيفهم تحت عبارة “حركة الفتح الإسلامي‘‘ أو ما كان في معناها، فهذه عبارة لاحقة محدثة، فكانوا يكتبون حسب السنين، لا حسب الموضوع. وأول ما عُني به من التاريخ الإسلامي، سيرة النبي ﷺ وما اتصل بها من مغازٍ، وقد كانت مُدرجة ضمن ما كان يٌروى من الحديث، فلما رُتّبت الأحاديث في الأبواب، جمعت السيرة في أبواب مستقلة، كان من أهمها بابٌ يسمى “المغازي والسير‘‘، ثم انفصلت هذه الأبواب عن الحديث و أفردت لها كتب خاصة .. فهذه كانت البدايات الأولى للتاريخ الإسلامي، ثم تطورت مواضيعه بالتدريج، لا سيما مع محمد بن جرير الطبري، والمسعودي، و مسكويه، ومن سيأتي بعدهم.
* * *
لقد اجتهد المسلمون لصياغة قواعد من أجل تنظيم علاقاتهم بالخارج، فقسّموا العالم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب. ولم يكن هذا التقسيم ينبني على أساس معاداةٍ ذات طابع عنصري أو ديني أو فكري، لأن الباحث في الأحكام الفقهية لن يجد فيها حكما واحدا يجيز العدوان بغير سبب أو خارج مبادئ العدل والمساواة و الرحمة بالناس. فالتقسيم وُجد لحاجات عملية، كانت تقتضي إحداث إطار شرعي لتنظيم العلاقات مع الدول، وكان ذلك يصاغ من خلال “كتب السِّير‘‘ و “السياسة الشرعية‘‘، وهو ما يعرف اليوم بالقانون الدولي. وكل ذلك كان عبارة عن مفاهيم فقهية اجتهادية، غير نصية، مبعثها، تحقيق المصلحة، ودرء المفسدة. كما أنها نشأت لمقابلة تقسيم آخر كان موجودا، أحدثه الرومان عندما ميزوا بين الرومان واللاتين من جهة، ومن هم سوى ذلك. ومن هذه الظروف التي كانت قائمة في الزمان والمكان، نشأت إذن، مسألة تقسيم العالم من طرف الفقهاء المسلمين إلى دار الحرب ودار الإسلام، من أجل تنظيم علاقة الدولة الإسلامية بجوارها، فتكون تلك العلاقة إما علاقة حرب أو في إطار صُلحٍ أو أمان. وإذا كانت هذه المفاهيم قد قامت على أساس نظري، فليس هناك ما يفرض بقاءها إذا تبدلت الظروف والمصالح، وتوافقت الأمم على نظام جديد يحفظ السلام و الأمن للجميع .. فالعلة تزول بزوال المعلول، والإسلام مبني في أصله على تقريرِ وحدة الناس ﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾، والاعترافِ بالأديان السابقة وبالأنبياء السابقين ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾، وفي خطبة حجة الوداع لرسول ﷺ نرصد جوهر تعاليم الإسلام، فقد قال فيها: {إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظُّمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب}، ثم تلى قوله تعالى: ﴿يأ أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.
* * *
ومن الخطأ أن يحاول البعض في وقتنا الحالي إسقاط مفاهيم اليوم على قضايا الأمس، أو محاولة تعريف بعض المصطلحات التي نشأت في بيئتها التاريخية الخاصة، من منظور اليوم، وذلك كمن يطرح سؤالا حول مكامن الفرق بين الفتح والاستيلاء والاحتلال، وهو قاصد أن يحصل على جواب مُسْتَمَدٍّ مما هو متداول اليوم من مفاهيم .. فهذا المسار، حتما، لن يساعد السائل على فهم صحيح للقضايا التي يطرحها. فالدراسات التاريخية و اللغوية تلزم الإحاطة بها ممن يتصدى لمثل هذه الأمور ويسعى أن يكون موضوعيا في مستنتجاته.
لست أدعي أن كل ما اعتبر فتحا من طرف بعض المؤرخين و الفقهاء قد كان فتحا بالفعل، لكنني لا أجرؤ، وأنا متسلح بالأمانة العلمية، أن أنكر فتوحات عظيمة في تاريخ الإسلام لم تشهد لها الإنسانية مثيلا، وستظل فخرا للمسلمين ونموذجا يقتدى به.