الفهرس

د. مصطفى أمزير 

   لم يكن “المعنى” (داخل المنجز الأدبي) يطرح إشكالا ذا أهمية مع المدرسة البنيوية؛ فالدرس النقدي داخل هذا الاتجاه كان مهموما بإشكال آخر يتعلق بما اصطلح عليه بارث بعلم الأدب مستفيدا من العلوم اللسانية ومن نماذجها النحوية التوليدية.

     من المفيد هنا،قبل استجلاء مفهوم ( بارث) للمعنى، من خلال كتابه الهام في زمنه ” النقد والحقيقة”، استدعاء السياق الذي ولد نقاش المبحث في نظرية الأدب.

في سياق المبحث        

   يشير (إبراهيم الخطيب) في مقدمة ترجمتة لكتاب “النقد والحقيقة” (ط 1- 1985 ) إلى أن الموْلَّف في الأصل مقالة صدرت سنة 1966 رد فيها بارث على مقال ريمون بيكار المعنون بـِ”نقد جديد أم تدجيل جديد” والذي سفه فيه تحليل بارث لِـ”راسين” (أديب مسرحي تراجيدي:1639-1699). ليأتي هذا الرد من قبل بارث شاملا موضحا فيه أسس النقد الجديد فيما له علاقة بالموضوعية، والذوق، والوضوح ورمزية اللغة، وعلم الأدب والقراءة والنقد. وهي مباحث لا تبتعد عن قضية المعنى بل هي روافد تشكله. والذي يهمنا في هذا السياق هو مبعث الخلاف المركزي بين ريمون بيكار ورولان بارث والمحدد أساسا في سؤالين محوريين:هل للأثر الأدبي – كما يفترض ريمون بيكار- معنى نهائي واحد ؟ أم ينفتح – كما يرى رولان بارث- على التعدد والثراء الدلالي؟     

   يجب التنبيه هنا إلى أن رأي بارث لا يتعلق بمعنى العلامة اللسانية كوحدة مستقلة، ولا الإشكال عنده في العلامات اللسانية المركبة داخل نسق لغوي معياري (تواصلي أو علمي) والتي حتى وإن خلقت التباسا في بعض الأحيان، فسرعان ما يتم تخفيفه بوساطة “الوضعية” القائمة خارج التركيب الملتبس (السياق، أو الإيماءة، أو الذكرى..).

   إن الإشكال إذن في النصوص الأدبية تحديدا، النصوص التي تفقد فيها العلامة بعدها الدلالي المباشر لتعانق الالتباس بسبب بنيتها المقتضبة المصاغة وفق سَنن رمزي يعيش خارج كل وضعية أو عرض يشير إليه. ولَمّا كان وضع الأثر الأدبي على هذه الشاكلة من التعالي والالتباس في نفس الوقت، فكيف يمكن أن نصل إلى فهم معناه؟

 العلامة والمعنى الثاني      

   إذا كان فهم التركيب (الجملة) والوصول إلى معناه يتم في ذهن المتلقي، كما يوضح اللسانيون، عن طريق العلاقات الاستبدالية التي يجريها عموديا وأفقيا، فما النتيجة التي تقود إليها هذه العملية بشأن التركيب الأدبي ذي السنن الرمزي الملتبس؟

   يعتقد رولان بارث بأن مسألة الاستبدال المعجمي (الشرح) يقود إلى استخلاص معنى أول هو في حقيقته صورة مصاغة بلغة بسيطة فقط للنص المنطلق تحتاج بدورها إلى معنى؛ ذلك لأن المعنى المقصود من التركيب الأدبي الأصل بقي ملتبسا، ما دمنا لم نكتشف بعد إيحاءاته وتنبؤاته، وإنما فقط شرحنا ألفاظه واستبدلنا معجمه،وهي مهام متخلفة- في رأي بارث- للنقد الأدبي إذا ما انتهت عند هذا الحد،لأنها أصابت الأثر الأدبي بخسارة حينما ابتذلت لغته وأخضعتها لنظام القول العادي، فحكمت عليه بالصمت وفقدان ما أراد أن يقوله من خلال لغته الإيحائية. و في هذه الحالة – حالة الشرح المعجمي/المعنى الأول- نكون قد خلقنا مدلولا وسطا لن يكون بدوره سوى مادة لقول آخر (ص19-20) يتحول بدوره إلى دال يبحث عن معناه/ المعنى الثاني وفق الصورة التالية:

نص أدبي/دال1 ــ معنى 1 /مدلول(المتولد عن الشرح المعجمي) /دال2 يحتاج إلى معنى 2 .                                  

   والمعنى الثاني هو لب الإشكال عند بارث ؛إذ ليس بمستطاع أي معجم أن يحدده بسبب العمق الرمزي الذي صيغ به الأثر الأدبي المنطلق. وأمام هذه الوضعية ينهض عمل الناقد وهو “إنتاج تلاحم ممكن للعلامات” النصية(ص69) و”تصور معنى معين للأثر، مشتقا من شكل الأثر” الأدبي نفسه وَفق إخراج فكري مقنع.

   والإقناع هنا لا يتعلق بمطالبته بقول حقيقة النص بل بأن يقنعنا بقراره على قول ما قاله عن النص. فالناقد/القارئ لا يمكن أن يقول أي شيء (ص70) وإنما أن يقول شيئا موجها بوساطة إرغامات شكلية. وما يكشف عنه الناقد ليس هو معنى الأثر وإنما معنى ما يقوله هو عن الأثر (ص71).

   ومن خلال هذه الإشارات يمكن أن نستنتج ما يلي فيما يتعلق بالمعنى الثاني وبشروط إنتاجه عند القارئ من منظور رولان بارث: 

1- ما يمثل أمام القارئ نسخة متحققة بلغة رمزية تستلزم ضرورة التأويل(ص78 ) لاستخلاص المعنى الممكن.                        

2- التأويل ليس ترفا وإنما حاجة موجهة بمجموعة من التعليمات والإرغامات الضرورية الثاوية في النص.                            

3- الأثر واحد والمعاني متعددة.                                                                                                    

   يعتبر بارث بأن المعنى الذي يولده الناقد تأويلا ليزيل التباس العلامات النصية للأثر الأدبي، يقوم على ما يمكن أن نصطلح عليه بالتفاعل. صحيح أنه لم يصرح بهذا المصطلح بهذا التعيين، ولكن مضمون التصور الذي يطرحه يعادل هذا المفهوم؛ إنه عبّر بمصطلح آخر قريب من التفاعل، هو مصطلح مزيج: حينما قال (ص77): (والناقد حينما يضيف قوله إلى قول الكاتب ورموزه..يصوغ مجددا علامة الآثار الأدبية ذاتها، والتي لا تكون إرساليتها المستهلكة ذاتيةٌ بعينها بل مزيج من الذات والقول جميعا بحيث يقول النقد والاثر الأدبي من خلال صوتهما المتضافرين)؛ فالمعنى المحصل عليه من قبل الناقد هو حصيلة شكل الأثر وكيفية انتظامه من جهة، وتدخل ذاتية الناقد لتفسير هذا الانتظام الخاص للعلامة الأدبية.    

   إن ذاتية بارث ذاتية مثقفة ممنهجة (ص75)، منحدرة من رموز الأثر الأدبي، ومثقفة لأنها إضافة يضيفها الناقد بقوله الخاص إلى قول المبدع. لكنها ذاتية مختلفة عن ذاتية النقد الكلاسيكي الممتلئة التي تتدخل في النص لتفرغ محتواها في القول و لتعبر من خلال تدخلها عن أحاسيسها الفردية كثرثرة مشوِّهة. بينما عند بارث فذاتية الناقد كيان فارغ يُصاغ مجددا عبر تفاعل بيني يضم رموز الأثر ونظامه من جهة، وثقافة الناقد المستدعاة من هذه البنيات النصية من جهة ثانية. لتعطينا في النهاية نصا إبداعيا آخر لا يقل عن إبداعية النص المنطلق الذي يبقى أبدا منفتحا على تعدد المعاني التي قد يكتشفها نقاد آخرون بذوات أخرى. فالرمز يبقى ثابتا والمتغير هو وعي المجتمع وذاتية الناقد القارئ.

  ومن هنا خلود الأثر الأدبي:لا لكونه فرض معنى وحيدا على أناس مختلفين، وإنما لكونه أوحى بمعانٍ مختلفة لأناس يتكلمون دائما اللغة الرمزية نفسها.  

بين بارث وآيزر    

يمكننا بعد بسط هذه التصورات الواردة في كتاب النقد والحقيقة أن نقارن بينها وبين تصور آيزر لمفهومي القراءة والوقع داخل نظرية جمالية التلقي، وذلك من الزوايا التالية:                                                                                     

1- النص عند بارث بنية موجودة محقق، له معنى ثاو في رموزه الموحية. بينما النص عند آيزر لا وجود له خارج وعي القارئ.       

2- يتحدث بارث عن المعنى الذي يكشفه الناقد بتأويل موجه من شكل الأثر ومن تدخل ثقافته الذاتية المستدعاة من هذا الشكل نفسه، بينما يتحدث آيزر عن الوقع والأثر. فبدل التساؤل عن المعنى يتساءل عن انفعال وإحساس القارئ في مرحلة تحقيقه لفعل القراءة.

3- يعتقد بارث بأن أدبية الأثر كامنة في بنيته كرموز وانتظام وشكل..بينما يرى آيزر بناء على مفهوم الوقع بأن هذه الأدبية تستدعيها قوة القراءة. فالأثر الأدبي يتمكن من تحقيق طبيعته الفنية من خلال سيرورة القراءة وتشكله/الأثر في وعي القارئ.                       

4- يتحدث كل من بارث و آيزر عن البنيات المحفزة (الرموز الشكل عند بارث والبياضات والفجوات عند آيزر) الأولى تحدث رد فعل الناقد فيبحث عن المعنى بما استدعته تلك البنيات من ثقافة عند بارث، والثانية عبارة عن خطاطات تقوم بخلق مجموعة من الإحالات المحفزة و المنشطة لرد فعل القارئ الضمني الذي ينغمس بموجبها في عملية إبداع وإنتاج مجموعة من الصور الذهنية يعمل على تشغيلها في عملية الاستجابة لهذه البنيات النصية الداخلية.

X