الفهرس

عبد الرحمن بن خلدون (1332/ 1406م)

تحدّث ابن خلدون في مقدمته بكلام جميل عن كيفية التعامل مع المتعلمين، و شدّد على عدم استعمال العسف و القهر معهم حتى لا ينعكس ذلك بالضرر عليهم، و ربط بين استبداد المعلم على متعلِّمه و الوالد على ولده من جهة، و بين ما يقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر، فقال:    

((وذلك أن إرهاف الحدِّ في التعليم مُضرٌّ بالمتعلم، سيما أصاغرُ الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباهُ بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهرُ و ضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحُمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر و الخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلُقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماعُ  التمدُّنُ، وهي الحميَة و المدافعة عن نفسه أو منزله. وصار عيالا على غيره في ذلك، بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس و عاد في أسفل سافلين.

وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتَبِرْهُ في كل من يُملَك أمرهُ عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراءً. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج، و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلِّمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه، الذي ألّفه في حكم المعلِّمين والمتعلمين: ” لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط “. ومن كلام عمر رضي الله عنه: “من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله”، حرصا على النفوس عن مذلة التأديب، وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملكُ له، فإنه أعلم بمصلحته.    

ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: ’’ يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصَيَّرَ يدَكَ عليه مبسوطة وطاعتَه لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروِّه الأشعار وعلّمه السنن، وبَصّره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرّن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إيّاها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة ‘‘ انتهى )).

ـــــــــــــــــــ

عبد الرحمن بن خلدون الفصل الأربعون من المقدمة

X