سعيد منصفي التمسماني 

 

إن ظاهرة الفساد في وطننا العربي، مكتسَبةٌ بامتياز، وآثارها واضحة للعيان، وأسبابها يكاد يراها الجميع، متخصصين كانوا أو أناسا عاديين، فلا يحتاج المرء إلى معرفة استثنائية لفهم الواقع المعاش.    

إن الناظر إلى العالم العربي يجد نفسه أمام رقعة جغرافية مترامية الأطراف، تتجاوز مساحتها 14 مليون كلم²، ويبلغ طول سواحلها البحرية حوالي 23 ألف كلم، و تقدر مسطحاتها المائية بنحو مليون هكتار، بينما تشكل مساحة الغابات فيها 2,5% من مجموع الغابات في العالم. أما الموارد المائية فتتنوع مصادرها باختلاف المناطق بين مياه الأمطار والأنهار والمياه الجوفية والأحفورية، بالإضافة إلى مصادر مائية غير تقليدية كمياه التحلية والمياه المعالَجة. وهذه الأرض، تحمل في باطنها ثروات هي بمثابة عصب النظام الاقتصادي العالمي. أما إذا ألقيْتَ نظرة على الموراد البشرية، فسترى أمامك هرما سكانيا متينا يغلب على مكوناته عنصر الشباب، الذي هو رمز الطاقة والإنتاج، يستمد سوقُ العمل العربي منه ما يحتاجه من قوى نشيطة، وتستفيد بعض الدول العربية من عائدات قواه العاملة في الخارج .. وبالتالي نحن أمام مصادر ثروة حقيقية، كان من المفترض أن يكون أصحابها على درجات عالية من الاكتفاء الذاتي، لكن المشهد يشير إلى واقع معاكس، يجعلنا في مقدمة الأمم التي تسجل أعلى درجات العجز في شتى أنواع الإنتاجات التي تسعى إليها المجتمعات لتلبية حاجيات معاشها.    

وأريد هنا أن أركز على موضوع الأمن الغذائي، الذي طالما أعلنت الدول العربية عن مخططات لتحقيقه منذ أن حصلت على الاستقلال، لكن المسافة بينها وبين الهدف ظلت بعيدة، بل إنها تباعدت أكثر فأكثر بالنسبة لبعض الدول، لا سيما بعد أزمة سنتي 2007 و2008 وما أعقبها من سنوات عجاف على كل المستويات.    

إن مشكلة الغذاء أضحت قضية عالمية تؤرق الشعوب وصناع القرار والباحثين والمنظمات الدولية، ولا يجب الاستهتار بالموضوع، لأنه على درجة عالية من الخطورة، وربما التحدي الأكبر الذي ستواجهه البشرية في المستقبل، سيكون بالأساس نابعا من مشكلة الغذاء.    

والعرب من حيث هذا الموضوع، هم في حقيقة الأمر في مشكلة بالغة الخطورة، وهم بعيدون كل البعد عن تحقيق اكتفاء ذاتي على مستوى الإنتاج الغذائي، ويسجلون عجزا كبيرا في هذا المجال على مستوى الميزان التجاري، وإن كانت النسب تختلف ارتفاعا وانخفاضا من دولة إلى أخرى، لكن الجميع يعاني من الارتفاع المتزايد لفاتورة الغذاء، لا سيما فيما يتعلق بالمواد الأساسية، والتي يسميها بعض الاقتصاديين بالمواد الاستراتيجية، وفي مقدمتها الحبوب.    

لقد دق ناقوس الخطر سنتي 2007 و2008، لكن معظم الدول العربية لم تنتبه له، واستمر جلها يشتغل على إيقاع ردات الفعل، فجاءت الثورات والانقلابات والحروب لتضع على المحك الأمن الغذائي العربي، ثم جاءت أزمة كورونا لتعري المستور وتكشف الوهن ومكامن الخلل ولتبين لنا ليس فقط مدى هشاشة أمننا الغذائي، وإنما كذلك مدى هشاشة أمننا الصحي ومدى تآكل مؤسساتنا الاجتماعية ومدى تبعيتنا للخارج واعتمادنا عليه في أعظم الأمور التي تعتبر من مقومات الدول ومن مظاهر سيادتها .. ولعلك تابعتَ مثلي فاجعة لبنان الأخيرة، وربما استغربتَ مثلما استغربتُ عندما صرح وزير الاقتصاد اللبناني، أن احتياطي الحبوب المتبقي يكفي لأقل من شهر بفعل انفجار مرفأ بيروت وتضرُّرِ مخزون الحبوب جراء ذلك، ولعلّكَ أدركت معي، مدى هشاشة، ليس أمننا الغذائي فحسب، وإنما هشاشة مقومات الدولة برمتها، وإن كان الأمر يتفاوت قليلا أو كثيرا من دولة عربية إلى أخرى.    

إن إشكالية الغذاء بشكل عام، والزراعة بشكل خاص، في الوطن العربي، لا ترتبط حصريا بندرة الموارد، كما يريد البعض تصويرها، إنما هي إشكالية فساد نما واستفحل أمره، وإشكالية سوء تدبير وتقدير، واختلاسٍ للمال العام. 

إن المساحة القابلة للزراعة في عالمنا العربي يُستغل منها أدنى من النصف، كما أن انخفاض متوسط نصيب وحدة المساحة و حصة الفرد من المياه مرده سوء التوزيع و هدر جزء كبير من الموارد المائية.     

فنحن إلى هذا الحين، لم نستغل جزءا كبيرا من الموارد المتاحة، و هذا الوضع ليس وليد اللحظة إنما هو نتيجة سياسات و تراكمات امتدت طيلة عقود من الزمن.      

صحيحٌ أن العالم العربي بدأ يدرك خطر الأزمة الغذائية، و أن دولا عربية تبنت برامج زراعية طموحة كالمخطط الأخضر في المغرب و سياسات التطوير و الإصلاح الزراعي في مصر و الجزائر و السعودية…، و أن التعاون العربي في مجال الزراعة تمخضت عنه عدة مبادرات…. غير أن كل هذه البرامج و التطلعات تظل مفرغة من نواتها إذا لم تصاحَب بسياسة صارمة و فعالة لمحاربة الفساد الذي يسري في الجسم الاقتصادي العربي يَهُدُّ مقوماته ويجعل من كل علاج عبارة عن مُسكن مؤقت المفعول.    

إن القطاع الزراعي/الغذائي مثله مثل أي قطاع اقتصادي أو اجتماعي آخر، يتأثر  بالجو العام الذي تسير فيه سياسة الدولة بكل مرافقها، فإذا كان هذا الجو ملوثا بالفساد عانت كل القطاعات و ضعف أداؤها… و ما أن القطاع الزراعي/الغذائي من أهم القطاعات الإستراتيجية و الحيوية، فإن انخفاض عطائه يكلف الدولة خسائر كبيرة أهمها خروج العملة الصعبة و اتساع مساحة الدين الخارجي و كلفته.    

يشُقُّ الفساد طريقه من رأس السلطة إلى قاعدة المجتمع، وتجلياتُه تأخذ شكلها في كل المجالات، من خلال ممارسات متكررة تصير مع مرور الوقت عُرفا يكاد يتقبله الجميع، أو ثقافة لا ينبذها الناس، وإنما يمارسونها عند الحاجة، والبعض يستحسنها ولا يجد حرجا في اللجوء إليها عندما يتعلق الأمر بمصالحه الشخصية أو العائلية … وتتجلى مظاهر الفساد في عدة ممارسات، كتسهيل التملص الضريبي، وتطبيق إعفاءات جبائية في غير موضعها، وتمرير صفقات عمومية دون احترام المعايير المعمول بها، وتسليم رخص غير قانونية مقابل رشاوى، وتشجيع اقتصاد الريع، ووقوع الموظفين في حالات التنافي مع مهامهم العمومية عندما يمارسون أعمالا تجارية مسموح بها فقط للخواص…. إلى غير ذلك من الممارسات التي يصعب حصرها.    

وعندما تترسخ تلك الممارسات لتصبح جزءا من بنية الدولة، حينئذ يصعب التخلص منها، لتؤثر بعد ذلك على اقتصاد الدولة ككل و على القطاع الزراعي بصفة خاصة، و من ثمة فلا عجب أن نرى، في مثل هذا الوسط الذي تغلغل فيه الفساد، كيف يُعفى الفلاحون الكبار من أداء الضريبة على الدخل في بعض الدول العربية رغم ما يراكمونه من ثروات فادحة، و كيف تسيطر الأقلية على أكبر  المساحات الزراعية وأجودها، وكيف تتآكل المناطق الفلاحية أمام اجتياح الإسمنت، وكيف تُحتكر بعض الصناعات الغذائية الأساسية من طرف شركات قريبة من دوائر السلطة وصنع القرار، و كيف يذهب قسم من أموال دعم المواد الغذائية الأساسية إلى جيوب المضاربين، و كيف أن الفلاح العربي يزداد فقرا في بيئة قروية أبسط ما يمكن وصفها به هو ما قاله المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في سلسلة حوارات مفتوحة مع زميله علاء الدين الأعرجي نُشر بعضها في جريدة القدس العربي سنة 2006 ، حيث يقول واصفا وضعية الشعب المغربي في البوادي: ’’فبالانتقال إلى البادية ننتقل إلى القرون الوسطى. و هذا شأن العالم العربي بأسره، والدليل على ذلك هو أن المحراث الخشبي ما زال إلى اليوم مستعملا في كل أرجاء هذا الوطن. فماذا تغير ؟ ‘‘    

إن ظاهرة الفساد تفوّت على المواطن العربي فرصا ثمينة و استثمارات هائلة و تحرمه من تحقيق أمنه الغذائي بتصديها لكل السبل المؤدية إلى استغلال الموارد الطبيعية التي تمنحها إياه الأرض العربية. ثم إن حجم الفساد تبلغ كلفته 3% من الناتج الداخلي الخام، أي بما يناهز 90 مليار دولار في السنة، حسب منظمة الشفافية الدولية، بل إن بعض المنظمات الدولية الأخرى تقدر حجم التكلفة أزيد بكثير من المبلغ المذكور.    

علينا إذن، أن نعي الوضع ونعترف بنتيجتين: الأولى، مفادها أن أزمتنا ليست أزمة موارد أو تقلبات مناخية و إنما هي مشكلة آفة تضخمت وتفرعت وتمأسست، اسمها: ’’الفساد‘‘. وهذا الوضع المحرج هو ما يجعل تصنيف البلدان العربية في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم حسب تقارير منظمة الشفافية الدولية، و لا يخرج من هذا التصنيف المتدني سوى قطر والإمارات العربية المتحدة، و المفارقة أنهما دولتان لا يشكل فيهما الناتج الزراعي من الناتج الإجمالي المحلي إلا نسبة ضئيلة، كما أنهما دولتان بعيدتان عن أشكال الممارسة الديمقراطية ومضامينها، وعمليات الإصلاح فيهما تصدر من لدن الحكام وليس من طرف المؤسسات. أما النتيجة الثانية، فقوامها، أن الفساد بكل تجلياته وآثاره، لابد له من بيئة ملائمة، و أنسبها: “الاستبداد”، الذي يغذيه ويهبه المناعة والحصانة. ففي ظل الاستبداد تنعدم المساءلة الحقيقية، ولا يعبأ الفاسدون بالمراقبة أو المتابعات، وتُعطّل التشريعات المناهضة للفساد والعقوبات الزجرية التي تردع المتورطين في نشاطاته. في المقابل، تهيمن المقاربات الأمنية وتتضخم سلطة المسؤولين عنها تدريجيا وصولا إلى المرحلة التي يصبح فيها بمقدورهم مراكمة الثروات دون أدنى قلق من أن تطالهم مساءلة أو مراقبة …    

غير أن الفساد، بكل ما يهبه من قوة وسطوة للفاسدين، إلا أنه ينتهي بهم في آخر المطاف إلى مزابل التاريخ، وأحيانا أخرى، قد يؤدي إلى انكسار دول بأكملها .. لذلك أنصح الفاسدين في كل الأقطار العربية، أن يكفوا عن المغامرة بالأمن الغذائي العربي ، الذي هو في ذات الوقت أمننا القومي، وأقول لهم: حذاري من ثورة الجيــاع !!

X