سعيد منصفي التمسماني
يذكرني عنوان المقال أعلاه، بسؤال انكب عليه فلاسفة الإسلام منذ زمن بعيد. ومفاده: هل يسبق النظرُ العقلي الإيمانَ أم العكس ؟
أما الجواب عن هذا السؤال، فقد فُتحت به أبواب متعددة في المعارف، وذهب الباحثون فيه مذاهب شتى .. ولعل أبين كلام قيل فيه، ما كتبه الفيلسوف ابن رشد في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من الاتصال‘‘، حيث هناك، توصل هذا المفكر إلى نتيجة توفيقية قوامها أن: “الحقَّ لا يُضادُّ به الحقَّ، بل يوافقه ويشهدُ له‘‘.
نحن هنا، أمام حقّين وواجبين وقيمتين متلازمتين، الديموقراطيـة من جهة، والمقاومة من جهة أخرى، فهل يجوز أن نضادّ حقا بحق ؟ أو أن نعطِّل قيمة إنسانية أساسيـة بسبب أخرى؟
لقد اعتقد جيلنا منذ خمسينيات القرن الماضي في مقولتين محوريتين: “مقاومة الاحتلال الصهيوني‘‘ و “مقاومة التهديد الخارجي‘‘، وقد بلغ الاعتقاد فينا مبلغا عظيما، حتى إننا كنا نُخَون ونُجَرّم كل من حاد عن هذا “الصراط‘‘…
والحقيقة أن شعورنا، كان شعور المتطلع إلى الانعتاق الذي يحصر في ذاك الآخر كلّ أسباب الداء دون أن يتسنى له أن يقف أمام نفسه وقفة متأملٍ فاحصٍ .. فكان ذلك يغرينا بعدم نقد الذات، أو بعدم تطبيق قوله ﷺ: {طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس}.
“مقاومة الاحتلال…‘‘، “التصدي للتهديد الخارجي‘‘…، وغيرها من المقولات المماثلة، تعبر كلها عن مسلمات ضرورية ونبيلة، لا جدال بشأنها، إلا أن توظيفها في العالم العربي، قد تم في معظم الحالات للإبقاء على مشهد سياسي واحد، و إجهاض كل محاولة تجديدية، واحتكار السلطة من طرف الجهة المتغلبة .. ولعلك مثلي، عندما تنظر إلى الخريطة السياسية لوطننا العربي في الوقت الحالي وتقارنها مع ما كانت عليه في بداية الستينيات، وتتساءل عن سبب اضطرابها وتقلصها، يخطر إلى ذهنك أن شيئا ما خطيرا قد أثّر سلبيا فيما آلت إليه الحال، وأن منهج التعاطي مع المشكلات لم يكن صائبا، وأظنك تعلم قصدي.
إن الذي يحرر الأوطان، ويسعى في تطورها ورخائها هو الإنسان التوّاق بإرادته الكاملة إلى الحرية. أما مسلوب الإرادة أو ناقصها فلا يُنتظر منه عطاء يفوق مقدراته، وهو إن عمل وسعى، فإنما تراه يعمل ويسعى لحساب غيره لا لحسابه .. فالإنسان خلق مسؤولا مكلفا، وذلك يقتضي اكتمال إرادته، وهذه الفطرة التي جُبل عليها توجد كما ينبغي أن توجد، و من الخطأ الفادح تعطيلها أو تحييدها عن سوائها الذي تستقيم عليه، ولا تستقيم على سواه.
لقد انتبه العرب قديما إلى المعنى المشار إليه، وتداولوا فيما بينهم، جيلا بعد جيل، أقوالا وروايات تنزع هذا المنزع. فحكوا أن شدّاد قال لابنه عنترة في حرب داحس والغبراء، عندما دارت الدائرة على قومه بني عبس: “ويلك عنترة كرَّ‘‘. فأجابه العبد الأسود: “إن العبد لا يحسن الكرّ والفرّ‘‘. فقال له والده الذي كان، حتى ذلك التاريخ، يرفض الاعتراف بابنه الأسود: “كرَّ و أنت حرّ‘‘. عند ذلك، تقول الأخبار، انقضّ عنترة على الأعداء وانتصر ونصر قبيلته، وأصبح منذ ذلك الحين، فارس بني عبس، بل وفارس البطولة العربية برمتها.
وقد تساءل الكواكبي رحمه الله عن الإرادة فقال:
’’هي أمُّ الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيما لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة. فالأسير، إذن، دون الحيوان لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه. و لهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنية مولاه. وقد يعذر الأسير على فساد أخلاقه، لأن فاقد الخيار غير مؤاخذ عقلا وشرعا ‘‘ انتهى الاقتباس.
والخلاصة، أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال تعطيل إرادة الناس تحت أي عنوان، لأن ذلك يعد تعطيلا لأهم مقومات الفطرة الإنسانية، فالإنسان، هو الإرادة، وبها يُصلِح و يقاوم ويدافع ويتدافع ويصنع التاريخ، وفي غيابها، يظل مجرد ظل تابع ليس له تأثير يذكر.