يوم الأربعاء الماضي، أعلن بيان للرئاسة الجزائرية، نشرته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أن ثلاثة من المواطنين الجزائريين تعرضوا بتاريخ 1 نونبر تشرين الثاني ’’لاغتيال  همجي في عملية قصف لشاحناتهم التي تضمن نقل السلع بين ولاية ورقلة الجزائرية ونواكشوط الموريتانية في إطار حركة مبادلات تجارية عادية بين شعوب المنطقة‘‘.

وأضاف البيان أن السلطات الجزائرية ’’اتخذت على الفور التدابير اللازمة للتحقيق حول هذا العمل المقيت وكشف ملابساته‘‘، دون تحديد مكان الحادث أو نوع التدابير المزمع اتخاذها لإجراء التحقيق.

وأكّد البيان وجود عدة عناصر تشير إلى ضلوع المغرب في القصف ’’بواسطة سلاح متطور‘‘ مضيفا أن اغتيالهم لن يمضي دون عقاب‘‘؛ لكن البيان تجنّب إعطاء أي تفصيل حول طبيعة تلك العناصر التي قال إنها تؤكد تورط المغرب في القصف.

وثمة ملاحظتان أوّليتان بشأن البيان. الأولى، تتعلق بربط الحدث بذكرى ثورة التحرير التي تُحييها الجزائر في الفاتح من نونبر من كل سنة، حيث جاءت بداية البيان على الصيغة الآتية: ’’في الفاتح نوفمبر 2021 وفي غمرة احتفال الشعب الجزائري في جو من البهجة والسكينة بالذكرى الـ67 لاندلاع ثورة التحرير الوطني المجيدة أغتيل ثلاثة 3 رعايا جزائريين في قصف همجي جبان لشاحناتهم…‘‘، ثم انتهى البيان على الشكل الآتي: ’’ويلتحق الضحايا الأبرياء الثلاث لعمل إرهاب دولة في هذا اليوم الأغر للفاتح من نوفمبر بشهداء التحرير الوطني الذين جعلوا من الجزائر الجديدة منارة للقيم ولمبادئ تاريخها الأبدي‘‘. ويبدو أن ربط الحادث بذكرى وطنية، يأتي من باب إثارة المشاعر الوطنية، ودفع المُتتبِّع الجزائري إلى تغليب العاطفة على القراءة الموضوعية للحادث. وبالتالي، فإن محتوى البيان موجه للاستهلاك المحلي بالدرجة الأولى. أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بما أُجرِي على القصاصة الإخبارية من تعديلات، حيث صدر الخبر يوم الأربعاء 3 نونبر/تشرين الثاني الجاري على الساعة 14:12 حسب توقيت الجزائر، وكان آخر تعديل له، في نفس اليوم على الساعة 15:05، وهو ما يعني، أن القصاصة احتوت أخطاء كان لا بد تصحيحها من طرف هيئة تحرير الوكالة لإضفاء المصداقية على الخبر وتجنب التناقضات التي قد يقع فيها.

ومنذ الوهلة الأولى لتداول خبر سقوط ثلاثة جزائريين، وحتى قبل أن يصدر عن جهة رسمية جزائرية، كان ثمة تضارب حول مكان وقوع الحادث. فيوم الثلاثاء الماضي، نقلت وسائل إعلام موريتانية، عن أعضاء من “البوليساريو” قولهم إن هجوما استهدف شاحنات جزائرية شمالي موريتانيا، إلا أن الجيش الموريتاني نفى بعد ساعات صحة تلك الأنباء.

ومما أضفى على الأمر مزيدا من الغموض، كون البيان الرئاسي الذي نشرته وكالة الأنباء الجزائرية لم يحدد موقع الحادث، واكتفى بالإشارة إليه بـ ’’المحور الرابط بين نواكشوط-ورقلة‘‘.

وفي مقال نشرته وكالة الأنباء الجزائرية أمس الخميس تحت عنوان: ’’الجزائر تراسل الأمم المتحدة وعدة منظمات دولية‘‘، جاء فيه أن وزير الخارجية الجزائري، رمطان العممارة، وجه مجموعة من الرسائل إلى جهات دولية، ادعى فيها استعمال المغرب ’’لسلاح متطور فتاك لعرقلة التنقل الحر لمركبات تجارية في فضاء إقليمي ليس له فيه أي حق، يشكل عملا للهروب إلى الأمام…‘‘.

فرواية النظام الجزائري، إذن،  تقوم بالأساس على اعتبار مكان الحادث ’’فضاء إقليميا ليس للمغرب أي حق فيه‘‘، وهو يعني بذلك المنطقة ’’العازلة‘‘. وهذه الرواية تتعارض مع القانون الدولي، ومع بنود اتفاقية وقف إطلاق النار في الصحراء الموقعة عام 1991.

فالمنطقة العازلة كانت خاضعة للمغرب حتى عام 1991، ثم تم تسليمها بعد ذلك إلى الأمم المتحدة لتنتشر فيها قواتها بهدف تدبير عملية وقف إطلاق النار، وهي منطقة ممنوعة على المدنيين منذ ذلك الحين، والتحرك فيها يشكل خطرا على حياة أصحابه بسبب الألغام الموجودة فيها، و لاسيما، بسبب ما يدعيه النظام الجزائري ومن خلفه ’’البوليزاريو‘‘ من حدوث تبادل لإطلاق النار بين المغرب وعناصر من الحركة الانفصالية.

وسبق للمغرب أن أخطر مجلس الأمن، في أبريل/نيسان من عام 2018 عن استفزازات وتوغلات ’’البوليزاريو،، بتشجيع من النظام الجزائري، في المنطقة العازلة، وبالذات، في ’’الكركرات‘‘ و ’’تيفاريتي‘‘ و ’’بير لحلو‘‘ و ’’المحبس‘‘؛ وحذّر من محاولة تغيير الوضع القائم ومن أن المغرب لن يتسامح مع ذلك.

وبالفعل، لم يتسامح المغرب مع الوضع الذي أرادت أن تفرضه ’’البوليزاريو‘‘ عندما حاولت إغلاق معبر ’’الكركرات‘‘ الواقع مع الحدود الموريتانية، حيث تدخل الجيش المغربي في نونبر/تشرين الثاني 2020 لتأمين المعبر بالكامل وفتحه للحركة التجارية وإخضاعه لسيطرته.

بعد هذا الفشل الذي تلقته ’’البوليزاريو‘‘ ومدعمها الأساسي المتمثل في النظام الجزائري، يمكن طرح أسئلة حول النوايا الحقيقية وراء إقدام السلطة الجزائرية من إثارة مشكل جديد في المنطقة ’’العازلة‘‘، لا سيما بعد إخفاقها في إقناع مجلس الأمن الدولي بتبني رأيها حول ضرورة إعادة ’’الكركرات‘‘ إلى وضعها الذي كان قائما قبل عملية القوات المسلحة المغربية، حيث إن الذي حدث سار عكس ما كان يتوقعه النظام الجزائري عندما أصدر مجلس الأمن قراره في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي القاضي بتجديد ولاية بعثة المينورسو عاما إضافيا.

المغرب لم يصدر، إلى حدود صباح هذا اليوم، أي بيان مفصل حول الاتهامات الموجهة له، واكتفى الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، بالقول إن المغرب يتمسك ’’بالاحترام الدقيق جدًا لمبادئ حسن الجوار مع الجميع‘‘، وذلك في سياق ردّه على سؤال صحفي حول الموضوع تقدم به بعض الصحفيين أمس الخميس.

مسارعة النظام الجزائري إلى اتهام المغرب مباشرة بعد وقوع الحادث، دون تأنٍّ أو تقديم أدلة مؤكدة أو دون حتى انتظار ما ستعلنه لجنة المينورسو التي توجهت لإجراء تحقيق في عين المكان، إنما يدل على نية مسبقة وتصعيد ممنهج، لا سيما في المنطقة ’’العازلة‘‘ في محاولة لاستنزاف المغرب والضغط عليه من أجل تقديم تنازلات في قضية الصحراء؛ غير أن هذا السلوك إنما يؤدي إلى زعزعة أمن المنطقة واستقرارها وضرب مصالح شعوبها على نحو يجعل القوى الخارجية المستفيد الأكبر.

(الفهرس: يسمح بإعادة نشر المقال مع الإشارة إلى مصدره)

X