أصل الكتابة العربية وترتيب حروفها وإعجامها وحركاتها

 

إن من أهم اختراعات الإنسان: الكتابة. ولا شك في أن هذا الاختراع قد غيّر مجرى التاريخ نحو التقدم والتطور .. ولم يكن الأمر سهلا، بل تطلب جهدا ووقتا. والناس اليوم تقرأ وتكتب لكنها لا تهتم أو لا تريد أن تستحضر الجهد المبذول الذي لولاه ما كان القرطاسُ ولا القلم.

من الكتابة الصورية إلى الكتابة المقطعية، كان لا بُدّ من الانتظار وقتا طويلا مع اجتهاد متواصل قبل الوصول إلى ’’الحروف‘‘ لتبدأ بذلك مرحلة ’’الألفبائية‘‘ التي فيها استطاع الإنسان التعبير عن كل ما يدور في عقله من أفكار وتسجيل كل ما يراه وتحويل الملموس إلى مجرّد بواسطة مجموعة من الرسوم الحرفية.

إن الكتابة كما قال ابن خلدون في مقدمته: صناعة شريفة، تُطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضي الحاجات، ويُطَّلع بها على العلوم والمعارف وصحُف الأولين، وما كتبوه في علومهم وأخبارهم، فهي شريفةٌ بجميع هذه الوجوه والمنافع.

لمن يعود فضل إيجاد الحروف؟ أو من هو المخترع الأول؟ سؤالان اختلفت بشأنهما الأجوبة، إذ لا يمكن اختزال اختراع الأبجدية في طرف واحد، لأننا أمام ظاهرة تحتاج إلى تلاقح وتوالد. ورغم ذلك، فإن الكثيرين يشيرون إلى الفنيقيين الذين أخذ عنهم المتعاملون معهم من اليونان وغيرهم من الشعوب المجاورة أسرارَ الكتابة بالحروف ثم انتقلت هذه الصنعة إلى أوروبا عن طريق الرومان.

والعرب من الأمم التي عرفت الكتابة منذ وقت بعيد انتقلوا خلاله من مرحلة إلى أخرى قبل أن تنضبط على منوال الخط القرآني الذي كان له الفضل في تثبيت الخط العربي وفتح آفاق تطوره.

أصل الخط العربي

تشير المصادر التاريخية والدراسات، إلى أن أول قلم دوّن به العرب هو ’’القلم المسند‘‘ أو ’’قلم حمير‘‘ حسب تسمية أهل الأخبار، وموطنه الأصلي اليمن، وقد استعمله السبئيّون والمعينيون قبل الحميريين، كما استعملته أقوام أخرى، وهو قلم يختلف بشكل كبير عن القلم الذي شاع بعد الإسلام.

كتابة بالخط المسند عُثر عليها في قرية الفاو الأثرية

ومن فروع القلم المسند: القلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود، والقلم اللحياني نسبة إلى لحيان، والكتابة الصفوية نسبة إلى أرض الصفاة. وقد عثر المستشرقون على هذه الكتابات في أعالي الحجاز.

ومعظم الروايات تذهب إلى أن القلم المسند أخذ يُترك شيئا فشيئا ليحل مكانه الخط الإرمي ثم الخط النبطي اللذين انتشرا بفعل الاحتكاك التجاري والتبشير بالنصرانية وكذلك لسهولتهما في الكتابة.

والأرجح أن الخط العربي كما نعرفه اليوم لم يكن أصيلا في الحجاز وأنه انبثق من الخط النبطي، نسبة إلى النبط، وأن هؤلاء أخذوه عن الخط الإرمي، مع بعض الاختلافات في سرد سلسلة الأصول التي يقدمها علماء العربية والدارسون لهذا الموضوع. وقد تعرض الخط النبطي بدوره إلى تعديلات مستمرة، جعلته يبتعد في رسمه عن الزوايا الحادة والتربيعات  المعمول بها في الكتابة الآرامية آخذا بليونة الكتابة والاستدارة إلى أن تجسّد في الخط الحجازي الذي كتب به القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي.

والنبط أو الأنباط، هو الاسم الذي يشار به إلى الجماعة العربية التي تأسست في كنفها المملكة النبطية من سنة 169ق.م إلى سنة 106م حسب تقديرات المؤرخين. وقد استقرت في المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية في المكان المعروف باسم ’’بلاد العرب الصخرية‘‘ Arabia petra عند الإغريق واليونان. والأبجدية النبطية هي من بين فروع الأبجدية الآرامية التي استخدمها الأنباط في تدوين لغتهم العربية النبطية؛ وقد  وُجدت نقوشها في جنوب الأردن وشماله وفي مدائن صالح في المملكة العربية السعودية.

وحول أصل الخط العربي، قال جرجي زيدان: ((والخلاصة على أي حال أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران أثناء تجارتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظلّ الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معا: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والكاتبات الاعتيادية…)).

والقلم ’’السطرنجيلي‘‘ الذي ذكره زيدان هو أحد أقلام الخط السرياني الذي كان يُستعمل لكتابة نصوص الكتاب المقدس، وقد انتشر في الشام والعراق، لاسيما من خلال التبشير بالنصرانية وما صاحب العملية من إحداث للمدارس لتعلم الكتابة، ويُعتقَد أن العرب اقتبسوه قبل الإسلام على نحو قرن تقريبا، ومنه انبثق الخط الكوفي الذي كان يسمى قبل الإسلام بـ ’’الحيري‘‘ نسبة إلى الحيرة، وهي المدينة التي كانت توجد في العراق قبل الإسلام وبجوارها أسس المسلمون مدينة الكوفة.

إذن، حسب زيدان، فالعرب اقتبسوا الكتابة من جيرانهم، والتزموا بقلمين بعد الإسلام: القلم النسخي (الدارج) الذي تفرّع عن القلم النبطي، وقد تميز بسهولته ومرونته لذلك استُعمل في الكتابات الاعتيادية. والقلم الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة الذي تفرّع عن الخط السرياني السطرنجيلي، وقد استُعمل لكتابة القرآن والنصوص الدينية.

وقال حَنّا الفاخوري عن أصل الكتابة العربية: ((لم توضع الحروف العربية وضعاً، ولكنها تولّدت بتنوّع الخط النبطيّ الذي كان شائعا في شمالي جزيرة العرب قبل الإسلام. فتكون حلقات سلسلة الخطّ العربي ثلاثا، أولاها الخط المصريّ القديم بأنواعه الثلاثـة –الهيروغليفي، والهيراطيقي، والديموطيقي-، وثانيها الخط الفينيقي، وثالثها الخط المسنَد. والمسند عدة أنواع عُرف منها أربعة: الخط الصفوي، والخط الثمودي، والخط اللحياني، والخط السبئي أو الحِمْيريّ. ومن المسند تفرع الخط الكندي والنبطي، ومن النبطي الخط الحيري والأنباري، ومنه الخط الحجازي –وهو النسخي العربيّ-. وأما الخط الكوفي فهو نتيجة هندسة ونظام في الخط الحجازي)).

أما المؤرخ جواد علي فقد اعتبر أن قلم النبط هو على عكس الأقلام العربية الأخرى التي عرفناها، وهي: المسند، والقلم الثمودي، والصفوي، واللحياني، هو قلمٌ يرجع أصله إلى القلم الذي ينتمي إليه قلم بني إرم وقلم تدمر وإلى المجموعة السامية الشمالية للخطوط.

وقال جواد علي: ((تطور القلم النبطي، كما تطور غيره من الخطوط، فصار له قلم قديم وقلم متأخر، امتاز بميله إلى ربط حروفه بعضها ببعض، حتى اكتسب شكلا يمكّن قراء القلم العربي الشمالي من التعرف عليه بسهولة)). وأضاف: ((إن هذا التطور الذي مر به الخط النبطي، يظهر لنا أن النبط لم يكونوا يقنعون بالأخذ والاقتباس، وإنما كانوا يكيفون ما ينقلونه من غيرهم ويطورونه حتى يكتسب شخصية خاصة مستقلة)).

وفي تقدير الأستاذ جواد علي، صاحب ’’المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام‘‘: ((يظل من الصعب تحديد وقت دخول القلم النبطي المتأخر إلى الحجاز واليمن ومدى انتشاره بين الناس. وعلى الأرجح أنه ظهر بعد الميلاد، أي وقت ظهور القلم النبطي المتأخر، وذلك بالاتصال التجاري والقوافل التي كانت تقوم برحالاتها بين اليمن وبلاد الشأم، وبواسطة النصرانية التي وجدت لها سبيلا إلى اليمن)).

ويذهب معظم المستشرقين، ومن بينهم المستشرق الألماني فرتز هومل (1854/1936) أستاذ اللغات السامية في جامعة منشن، إلى أن الخط العربي الذي دُوِّن به القرآن أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط، وأن الخط النبطي قد أخذ  من القلم الإرمي المنبثق عن الفينيقية.

والظاهر مما سبق، أننا أمام شبه إجماع من أن الخط العربي قد انبثق عن الخط النبطي، مع وجود بعض الاختلافات، كما أشرنا سابقا، بين المختصين فيما يخص سرد سلسلة الأصول وطرق الاقتباس.

هذا، وقد عُثر على عدة كتابات كُتبت بالقلم النبطي المتأخر، ككتابة النمارة التي عثر عليها المستشرق الفرنسي  M.René Dussaud، في النمارة في الحرة الشرقية من جبل الدروز، وقد وُجدت على قبر امرئ القيس الأول ابن عمرو ملك العرب المتوفى سنة 328م وهي سنة تأريخ الكتابة كذلك؛ وكتابة ’’نقش حران‘‘ اللجا، التي يعود تأريخها إلى 568م، وهي من أهم النصوص وأقربها إلى النصوص العربية…

كتابة النمارة بالخط النبطي المتأخر

ترتيب الحروف العربية

من الملاحظ أن ترتيب الأبجديات عند الغربيين يتشابه مع ذلك المعمول به عند الساميين، وهذا دليل على وحدة الأصل. وكما سبق أن قلنا، فإن الكثيرين يشيرون إلى أن الفنيقيين كان لهم الفضل في اختراع الألفبائية، وأن المتعاملين معهم من اليونان وغيرهم من الشعوب المجاورة قد أخذوا عنهم أسرار الكتابة بالحروف ثم انتقلت هذه الصنعة إلى أوروبا عن طريق الرومان.

والملاحظ كذلك، أن العرب، وهم من أقرب الأقوام إلى الفينيقيين، قد عملوا بترتيب الحروف على منوال ’’أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت‘‘. وهذا الترتيب كان معمولا به في المنطقة، واستعمله السريان والنبط والعبرانيون، والأرجح أنهم أخذوه من الفينيقيين. لكن العرب وضعوا بعد ’’قرشت‘‘ الحروفَ التي لم ترد في ترتيب أبجد هوز وهي موجودة في العربية، ويقال لها ’’الروادف‘‘، وهي ’’ثخذ ضظغ‘‘.

وبذلك، أضحت حروف الهجاء في اللغة العربية ثمانية وعشرين حرفا: ’’أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ‘‘، وتسمى المجموعة بـ ’’الأبجدية‘‘ على اسم أول لفظة فيها وهي ’’أبجد‘‘، وتُستعمل في حساب الجُمَّل.

أما الترتيب المعمول به في وقتنا هذا والذي يبدأ بالألف وينتهي بالياء، فهو ترتيبٌ لاحق، عُمل به بعد ظهور الإسلام، ويقال أن واضعه هو نصر بن عاصم في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، والأرجح أن القصد من وضعه على هذا المنوال يَكْمن في  تسهيل حفظ أشكال الحروف للطلاب، لأنه راعى الجمع بين الحروف المتشابهة.

ويتجه الخط العربي من اليمين إلى اليسار، وهو في ذلك لا يختلف عن أكثر الخطوط السامية، كالخط الإرمي والعبراني.

ويتم التمييز بين الكلمات في الخط العربي بترك فراغ صغير بين كلمة وأخرى، بينما في الخط المسند كان التمييز بين الكلمات يتم باستعمال خطوط عمودية نازلة تفصل بين الكلمات.

الإعجام والحركات

الإعجام، هو تنقيط الحروف المتشابهة لتمييزها عن بعضها البعض: الحاء/الخاء، الدال/الذال…

وأغلب الآراء تذهب إلى أن واضع الإعجام هو ’’ناصر بن عاصم‘‘، وروايتهم أنه لما كثر الخطأ في قراءة القرآن بسبب عدم تمييزهم بين الحروف المتشابهة، وتفشي وباء الجهل بعدم التمييز في القراءة بين الحروف المتشاكلة، فزع الحجاج إلى كتَّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة علامات تميزها.

أما عن حركات الكلمات، أي شكلها وضبطها من حيث الضم والفتح والكسر والسكون، فإنها وُضعت أول الأمر على يد أبي الأسود الدؤلي المتوفى سنة 69هـ. ولم يكن الخطّ العربي قبل المرحلة الإسلامية مُشكّلاً.

والذي قام به أبو الأسود الدؤلي، هو استعماله للنقط كتمثيل للحركات، ثم جاء بعده الخليل أحمد الفراهيدي (المتوفى سنة 170هـ) فأبدل النقط برموز أخرى هي الفتحة والكسرة والضمة والتي ما زلنا نستعلها إلى اليوم.

وقد حدث لبس في مسألة الإعجام، حيث  نسب بعض أهل الأخبار الإعجامَ (أي تنقيط الحروف المتشابهة) إلى أبي الأسود الدؤلي، كما نسبوا إليه النقط (أي الشكل).

وفي هذه المسألة قال الأستاذ جواد علي: ((فتنقيط أبي الأسود للحروف لم يكن إعجاما، بل كان شكلا، أي ضبط حركة الحرف من حيث الضم أو الفتح أو الكسر أو السكون حسب تكوين الحروف للكلمة، فهذا كان تنقيط أبي الأسود الدؤلي، أما شكل الوقت الحاضر فهو من اختراع الخليل بن أحمد الفراهيدي))، وأضاف: ((لذلك يجب علينا التفريق بين تنقيط أبي الأسود -الذي هو الشكل-، وبين الإعجام الذي هو تنقيط الحروف المتشابهة لإزالة اللبس بينها، ثم التفريق بين شكل أبي الأسود وبين شكل الخليل الفراهيدي واضع الشكل المتَّبع الآن لموت طريقة أبي الأسود في الشكل وتخصيص النقط بالإعجام)).

(الفهرس/ سعيد منصفي التمسماني)

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني
X