إن الاطلاع على مشاهد الخيانات في صفحات التاريخ قراءةً وتأمُّلاً ليس كمن يطّلع عليها شاهداً مُبْصراً…

 

 

بقلم: سعيد منصفي التمسماني 

 

 

قرأت كثيرا في كتب التاريخ عن خيانات كان أبطالُها أناسا يتحدثون لغتنا، ويُظهرون الإيمان بمعتقدنا، وينحدرون من نفس الأصول التي ننحدر منها .. مثل هؤلاء، مرّوا عبر  محطات في تاريخنا، وتسبّبوا بمواقفهم في إثارة أمواج عاتية لا تزال تضربنا وتعيق سيْرنا.

دفعني الفضول أحيانا إلى أن أقف عند بعض المحطات متأملا، محاولا تصور تفاصيل أحداثها. فكان الشعور بالحزن والأسى يهيمن على كل وقفة من تلك الوقفات .. وغالبا ما كانت تنتهي رحلتي ’’الفضولية‘‘ في أيام الماضي بإعادة نفس السؤال: كيف كانت الأمور ستجري لو لم تحدُث الخيانة؟

غير أن الاطلاع على مشاهد الخيانات في صفحات التاريخ قراءةً وتأمُّلاً ليس كمن يطّلع عليها شاهداً مُبْصراً .. ولعلّ من نكد الدنيا على جيل ما، أن يكون شاهد عيان على خيانة تُحاك ضد جماعة من الناس ذوي قرابة دون أن يقوى على تقديم أيّ شيءٍ لهم يشدّ به عضدهم.

لا أريد أن أتهم كل الأنظمة العربية بالخيانة .. فهذا اتّهامٌ عظيـم!! لكنني لا أتردّد في أن أصف موقفهم بـ ’’الوهن‘‘ .. ولعلّ ما بين الوهن والخيانة خيطا دقيقا، أو لعلّ الوهنَ هو أصل الطريق نحو الخيانة!!

أصاب جسْمَ دُولنا الوهنُ بسبب تراكم عقود من الفساد والاستبداد وسوء التدبير وتغْييب ثقافة المقاومة وأدبياتها عن فلسفة الحياة عندنا، فأدى بنا ذلك إلى الدعة وفتور الهمم، وإلى الغرق في مستنقع المديونيّة، ورداءة المستوى العلمي، وضعف الإنتاج، واختلال أداء الميزان التجاري، فبتْنا نستورد معظم ما نستهلك، ونُصدّر أقل بكثير مما نستورد، حتى أصبحنا مسْتطيعين بغيرنا لا نكاد نتجرّأ أن نعصي لهم أمرا.

ماذا ننتظر من دول وأنظمة وقيادات نال منها الوهن على هذا النحو؟؟ !!

إن مخرجات القمة العربية الإسلامية حول ما يجري في غزة كانت معروفة حتى قبل صدورها، لكننا  كنا في نفس الوقت نلتمس ونأمل إثارة ’’نخوة المُعتصـمِ‘‘ وغيرته على الدم والعرض والمقدس وخوفه على مآلات المصير المشترك…

عندما حاصرت إسرائيل بيروت سنة 1982، احتشد العرب سياسيا لكن موقفهم كان ضعيفا. أعلن آنذاك، الرئيس المصري الراحل حسنى مبارك، وقادة آخرون، ترحيبهم بتشكيل حكومة فلسطينية في المنفى .. كان ذلك شبه دعوة إلى المقاومة الفلسطينية للخروج من تحصيناتها في بيروت، وإيذانا بانتهاء الثورة الفلسطينية المسلحة التي بدأت في فاتح يناير 1965 وأُسْدِل عليها الستار بعد الخروج من لبنان سنة 1982 .. موقف الأنظمة العربية وقراراتهم في تلك المرحلة كانت تدل على أنهم لم يفهموا طبيعة الصراع مع كيان الاحتلال ولم يستوعبوا دروس الحروب النظامية معه في سنوات 48 ـ 56 ـ 67 ـ 73…

 

مصدر الصورة: الأناضول

منذ ذلك الحين والأنظمة العربية تكرر نفس الأخطاء، وجسامة خطئها اليوم في تعاملها مع العدوان الإسرائيلي على غزة، هو أكثر خطرا وأشدّ تأثيرا على المنطقة ومآلاتها السياسية والاقتصادية.

يسوق البعض هذا الموقف بأنه نتاج نهج سياسي يتبنى الواقعية والعمل في إطار الممكن، ونحن نثني على الواقعية الموضوعية ما دامت لا تعني الخضوع والاستسلام وما دامت لا تؤدي بالدول والجماعات والأفراد إلى فقدان أهم مقوم من مقومات الإنسان: وهو أنه كائن فاعل.

وهب أننا متفقون مع مفهوم الواقعية الذي يُقدّم كإنجاز يُروَّج له عبر وسائل الإعلام الرسمية، فإن منطق الأشياء ومنطق هذا النوع من ’’الواقعية‘‘ يقتضي أن يعمل النظام العربي قصارى جهده لإطالة عمر مراكز ’’المقاومة‘‘، ذلك، أن مكانته لدى القوى الكبرى التي يحاول أن يسترضيها، إنما تستمد أهميتها وجودا وعدما، من وجود تلك ’’المقاومة‘‘ وما تضعه من عراقيل في طريق مشروع الاحتلال والاحتواء والإمبريالية الأمريكية، فإذا ما تلاشت ’’المقاومة‘‘، توارى حينئذ دور الأنظمة الوظيفية في نظر سيّدها وتغيّرت أولوياته، وتبدّلت كيفية تعامله مع وكلائه نحو الأسوأ وَوفق ما تقتضيه سنن التغيير.

أي منهج يمكننا اعتماده لتفسير موقف الأنظمة العربية حول ما يجري في غزة؟؟

الظاهر، أن كل المناهج والطرق تسير بنا نحو نتيجة واحدة، مفادها، أن الأنظمة العربية باتت منفصلة انفصالا مبرما عن شعوبها من حيث الإرادة والموقف والمُبتغى .. إنه طلاق خطير ومكلف…

عندما تعجز دولنا عن تزويد مُوَلّد واحد بالوقود في غزة، وإيصال رغيف وماء ودواء إلى الأطفال والنساء والمرضى هناك، وعندما تعجز عن فرض السيادة على معبر واحد يقع داخل أرض عربية يرتبط مباشرة بغزة، وعندما يقف الجميع أمام المشهد مندهشا ساكنا، يكون ’’الوهــن‘‘ قد نال من جسم الأمة وبلغ غاية منتهاه حتى أصبح البعض يلـوذ بـ ’’الخيانة‘‘ فرارا من ’’الوهــن‘‘!!

إلا أنه كلما اشتدّ هول المصائب على أبناء هذه الأمة، فإنهم يلتجئون دائما إلى نسيجهم الثقافي والديني، يستمدون منه القوة للبقاء والصمود، ولولا هذا النسيج وخصوصياته المتأصلة لذهبت الأمة وانصهرت واحتوتها الأمم الغالبة مثلما حدث مع العديد من الأمم التي مرت عبر التاريخ .. ومن هذا النسيج، أستحضر حديثين لرسول الإسلام، نظرا لرمزيتهما في السياق، أختم بهما مقالي:

الحديث الأول: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)). فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)). فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت)).

الحديث الثاني: ((لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأْواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك))، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني
X