مصطفى أمزير: الصـراع الفرنسي الإنجليزي حول المغرب من خلال الأرشيف الدبلوماسي لنابليون بونابرت

الفهرس

الكاتب: د.مصطفى أمزير

عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، صدر كتاب هام في بابه للدكتور عبد الحفيظ حمان، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عبد الملك السعدي، بعنوان “المغرب وفرنسا زمن نابليون بونابرت (1798- 1815): قضايا ونصوص‘‘في طبعة أنيقة لـِ “باب الحكمة‘‘ من 196 صفحة من الحجم المتوسط

تنبع قيمة هذا الكتاب من أهمية الوثائق التي احتواها؛ وهي في مجملها مراسلات دبلوماسية،تنشر لأول مرة مجتمعة بين دفتي إصدار واحد، كان قد تبادلها الإمبراطور الفرنسي مع السلطان المغربي المولى سليمان الذي زامن حكمه المد العسكري لنابليون صوب الشرق العربي. إلى جانب رسائل أخرى بالغة السرية كان قد بعث بها بونابرت إلى قناصله في مدينة طنجة، أو إلى قواد فرقه العسكرية المرابطة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط؛البحر الذي داعب خيال إمبراطور الثورة الفرنسية في صورة بحيرة فرنسية خالصة.  

وزّع المؤلف الوثائق التي اشتغل عليها، والبالغ عددها 80 وثيقة، إلى ثلاثة محاور شكلت فصول الكتاب: ’’المغرب ونابليون بونابرت أثناء الحملة على مصر‘‘ – ’’العلاقات بين المغرب ونابليون(1799- 1807م)‘‘ – ‘‘الاحتلال النابليوني لشبه الجزيرة الأيبيرية وانعكاساته على المغرب‘‘.    

أظهرت هذه الوثائق أن احتلال مصر شكّل البداية الفعلية لاهتمام نابليون الاستثنائي بالمغرب الأقصى، فقد كان محتاجا لدعم هذا البلد من أجل خرق الحصار البحري المفروض على قواته المتواجدة في مصر من قبل الأسطول الإنجليزي المتفوق، داخل فضاء شعبي وسياسي مقاوم لاستعماره.

وقد كانت أول مبادرة في اتجاه استمالة المزاج المغربي السياسي والعاطفي، الشعبي والرسمي معا، نحو فرنسا عقب احتلال بونابرت لمالطا في يونيو 1798م حيث بادر نابليون إلى إطلاق سراح كل أسرى القرصنة من المغاربة المحتجزين في الجزيرة وعلى رأسهم امرأة شريفة من أقرباء السلطان المولى سليمان. بالإضافة إلى الحرص على معاملة الحجيج المغربي المار بالأراضي المصرية معاملة استثنائية، رغم انغماس بعضهم في حركة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي…

في مقابل ذلك كان أمل نابليون كبيرا في أن يساعد النظام المغربي فرنسا على فك حصار البحرية الإنجليزية، وذلك بتموين قواته المتواجدة على مرمى حجر من السواحل الشمالية المغربية في شبه الجزيرة الأيبيرية، ومن خلال تسيير قوافل دعم برية إلى مصر. محاولا كل مرة عبر قناصله طمأنة المغاربة على أنه لم يهدف من حملاته على الشرق العربي، التي كان لها صدى سلبيا في وجدان العامة، إلا إلى “نصرة الإسلام، وتخليص الضعفاء من جبروت المماليك ورد الظلم عنهم..‘‘(!) .

في مقابل هذا الطموح، حرص المخزن المغربي على تَبنّي سياسة الحياد، رافضا ، من جهة، طلب الباب العالي الانخراط في الجهاد ضد فرنسا، وهو ما أثلج صدر نابليون، وفي نفس الوقت عدم الإيغال في العلاقة الاستراتيجية مع باريز كما كان يريد بونابرت، خوفا من غضب الإنجليز الذين كانوا قد أغرقوا السلطان وحاشيته المؤثرة بالهدايا والوعود، واستولوا على معظم عقود التجارة البحرية للمغاربة.      

وأمام انحسار النفوذ العسكري لفرنسا أمام عدوتها اللدود انجلترا في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط على إثر انتكاسة معركة أبي قير، ومع التقارب المغربي الإنجليزي المطرد الذي تُوّج باتفاق ضمني سمح للقوات البحرية البريطانية بالنزول على جزيرة ليلى(توره) المغربية القريبة من مدينة سبتة التابعة للنفوذ الفرنسي بعد احتلال نابليون لإسبانيا، وهو الإنزال الذي مكّن القوات البريطانية من إحكام السيطرة التامة على عنق البحر المتوسط من جهتيه الشمالية حيث التواجد الانجليزي على صخرة جبل طارق، والجنوبية حيث جزيرة “تورة‘‘…عقب كل هذه التحولات الجيوسياسية القاسية على فرنسا، أصبح مشروع احتلال المغرب من قبل نابليون، انتقاما مما اعتبره انحرافا للسلطان المغربي عن سياسة الانحياز التي أعلنها، مسألة إعداد ووقت لا غير.

فقد أفصح بونابرت في إحدى مراسلاته السرية إلى مقيمه بمدريد المارشال ميرا، بأنه بات على استعداد “للعبور شخصيا بوغاز جبل طارق رفقة 200.000 جندي من الإسبان والفرنسيين‘‘ (ص182). وفي أفق تحقيق هذه الغاية، انخرط بونابرت عمليا في التخطيط لهذا الاجتياح من خلال إرسال عيون عسكرية محترفة لتسجيل “ملاحظات حول الطرق والمدن، ووضعية الحصون الدفاعية وطبيعة الميدان والقوة العسكرية في هذا البلد” (رسالة نابليون إلى جوهاشيم ميرا،ص180). فيما أوفد إلى الرحالة الجاسوس الشهير دومنجو باديا (علي باي العباسي)، الذي كان له اطلاع واسع على جغرافيا المغرب، وعلاقات نافذة بطبقاته المؤثرة، طالبا منه تزويده بمخطط شامل يسعف في احتلال سريع وغير مكلف للمغرب (رسالة دومنجو باديا إلى نابليون حول احتلال المغرب،ص175).

غير أن انشغال بونابرت بالتحولات العسكرية المفاجئة في أوربا، مع نجاح الثورة الإسبانية في إخراج قواته من مدريد..كل ذلك شتت تركيز بونابرت بالشكل الذي لم يترك له الصفاء الذهني اللازم للاستمرار في التخطيط لاحتلال المغرب .. 

لعل ما سيثير انتباه قارئ هذا الكتاب القيّم، بالإضافة إلى كمّ المعلومات النادرة التي بإمكانها أن تفسر مسار الأحداث داخل هذه المنطقة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ العالم، سقف التفاعل الرسمي والشعبي الناضج، أنذاك، مع الموقف الدولي فيما له علاقة بالمد الاستعماري نحو الجنوب العربي؛ فرسميا سيندهش القارئ، بلا شك، من مستوى التدبير السياسي الماهر الذي أدير به ملف صراع القوى العظمى حول المغرب، بشكل مكَّن في الأخير من تجنيب هذا البلد الاستعمار المُبَكّر على غرار ما حصل في الشرق. فقد نسج السلطان سليمان، بمعية أخيه الناضج الأمير عبد السلام، شعرة معاوية مع طرفي المعادلة، يشد الشعرة حينا لحد التوتر والأزمة، ثم يرخيها أحينا أخرى عبر الهدايا والمراسالات الودية… في تدبير احترافي لَعب على التناقض الاستراتيجي بين الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، مكّن في الأخير من الاستفادة من الطرفين اقتصاديا وعسكريا بذريعة الحياد الإيجابي.      

كما أن التفاعل الشعبي مع الخطاب الديني الذي كان منغمسا في التحريض على مواجهة أي احتمال للإنزال الفرنسي على الشواطئ المغربية،أدخل نابليون في كثير من التردد، وفوت عليه فرصته التاريخية بعد أن تاه، متوجسا من ردة الفعل المقاوم، في حسابات طويلة من احتمالات الربح والخسارة.

(الكاتب: د. مصطفى أمزير)

X