الفهرس

سعيد منصفي التمسماني

       ’’انخفض النيل فعم الغلاء‘‘ …

 هذه هي العبارة التقليدية التي كان المؤرخون والجغرافيون العرب يبدأون بها كلامهم لوصف الأزمات الاقتصادية التي كانت تمر بها مصر، لا سيما أيام المجاعة ونقص الإنتاج.

 وقد سجّل القرآن مشهدا من ذلك في سورة يوسف، وسجل البغدادي وَقْع المجاعة في مصر زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، أو ما عُرف بـ ’’الشدة المستنصرية‘‘، وقال المقدسي عن مصر: ’’هذا الإقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه، وإذا أجدب فنعوذ بالله من قحطه‘‘.

 والحقيقة أن مصر بقدر ما هي ’’هبة النيل‘‘ كما وصفها هيرودوت، بقدر ما أن وجودها يتأثر به ساعة ارتفاعه أو انخفاضه. وقد قيل، إن العرب كانت تعتبر ارتفاع منسوب ماء النيل بـ 16 ذراعا حَدًّا فاصلا بين الكفاية والحاجة، فإذا ما ارتفع إلى 18 ذراعا كان فيضانا ’’سلطانيا‘‘ وعم الرخاء، فإذا ما تعدى علامة العشرين كان ’’الاستبحار‘‘ أي الغرق للأرض والزرع، وقد يصل إلى 24 ذراعا فتكون ’’اللجة الكبرى‘‘ أي الطوفان الكاسح، فإذا ما هبط النهر عن الحد الفاصل الذي هو 16 ذراعا، فتكون ’’الشدة‘‘ التي قد تصل إلى حد ’’المجاعة‘‘.

 فالنيل إذن، هو شريان الحياة في مصر، لكن هذا الشريان ينطلق من خارج حدود مصر، أي أن حوض النيل ينقسم إلى ثلاثة مراكز مائية: المنبع والمجرى فالمصب. ومصر هي أرض المصب، وبما أنها كذلك، فإن الهاجس القديم الجديد كان وما زال يتمثل في أن من يملك السيطرة على منابع النيل يمكنه أن يؤثر على مركز المصب من حيث الارتفاع أو الانخفاض. وإذا كان الارتفاع قد أوجد له المصريون حلا بواسطة السد العالي، فإن مشكلة الانخفاض ما تزال تؤرقهم.

 و لا يبدو أن اتفاقية المياه لسنة 1959، والتي حلت محل اتفاقية 1929 آخذةً منها بعض بنودها، قد استطاعت أن تنهي الهاجس. فهذه الاتفاقية التي أعطت لمصر بناء على حقوقها التاريخية المكتسبة، 48 مليارا ، تراها إثيوبيا، ومنذ عقود، مجفحة بالنسبة لها، و تحرمها من الاستفادة من ماء النيل الأزرق الآتي من بحيرة تانا الواقعة في أراضيها.

 لذلك كله، كانت اهتمامات مصر الحقيقية في إفريقيا، كما قال عنها الراحل جمال حمدان: ’’نيلية في المحل الأول، واهتماماتها النيلية العميقة هي مائية في الصف الأول، وفي كلتا الحالتين فإن مبدأ حسن الجوار هو الذي يحكم ويسود علاقات مصر بدول الحوض الثمانية، في ظل أخوة الوحدة العربية في حالة السودان العربي وفي ظل صداقة الوحدة الإفريقية في حالة سائر دوله غير العربية‘‘. انتهى الاقتباس.

 والمسافة القائمة بين ما قاله جمال حمدان، مؤلف موسوعة ’’شخصية مصر‘‘، وبين الحاضر، مسافةٌ تتخللها عقود من الزمن، تغيرت فيها الظروف ومراكز الدول وسلطاتها السياسية وأولوياتها.

 ولابد في هذا السياق من استحضار كلام الطهطاوي، رحمه الله، وهو يتحدث عن خصب مصر ويمنها، فيقول عنه، إنه ’’متسبب عن النيل، ويمن غيرها الزراعي متسبب عن اختلاف الفصول والأمطار. فبهذا كانت مصر مستعدة لكسب السعادة أكثر من غيرها، بشرط انتظام حكومتها واجتهاد أهاليها، لأن اختلال حكومتها يخل بمزارعها بخلاف اختلال غيرها من الحكومات، فلا يؤثر شيئا في جريان الفصول والأمطار‘‘.

 وبين كلام جمال حمدان والطهطاوي خيط رفيع يربطهما، يتعلق بسياسة السلطة الحاكمة تجاه أعظم القضايا التي تفرض نفسها بقوة على الدولة المصرية، ألا وهي قضية النيل، شريان الحياة في مصر .. وهذه السلطة السياسية التي تحكم مصر في الوقت الحاضر، مع الأسف الشديد، ليست على قدر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقها، إذ غيرت سلم أولوياتها الاستراتيجية على نحو يشوبه كثير من الغموض.

 ولعله من المفيد التذكير، أن الكاتب حسنين هيكل، قبل رحيله عن هذه الحياة بقليل، في برنامج مع الإعلامية لميس حديدي، أراد أن يربط الحاضر بالماضي بخصوص مسألة نهر النيل فقال، بأن دولا ومراسيم بابوية وأباطرة في الغرب كانوا يتصورون أن إنهاء الحروب الصليبية وإسقاط دور مصر ’’سيكون من خلال تجويعها وقطع المياه عنها‘‘، وحاول هيكل خلال الحوار، أن يبعث رسائل ضمنية إلى من يهمه الأمر، أو إلى صاحب الأمر على وجه الدقة، غير أن كلامه، حسب صيرورة الأحداث، لم يلمس اهتمام المخاطَب به.

 لا أحد يعلم إلى حدود الساعة، كيف ستكون تأثيرات الملء الثاني لسد النهضة على منسوب مياه النيل؛ و لا أحد يستطيع رصد الحدث وتتبعه وإفادة الرأي العام بمجرياته، لكن الأكيد، كما أعلنت الخارجية الإثيوبية في السنة الماضية، هو أن سد النهضة قد أحدث تغييرا في الجغرافيا السياسية. وهو تغيير، حسب ما يبدو، كانت السلطة السياسية في مصر في غفلة عنه، ومنشغلة بقضايا أخرى.

ولا يلوح في الأفق موقف مصري-سوداني صارم وحاسم وقوي؛ ولا تبدو أن مناورات ’’حماة النيل‘‘ العسكرية التي أجراها الجيش المصري ونظيره السوداني في كردفان بجنوب السودان في شهر مايو/أيار الماضي قد أثرت على الموقف الإثيوبي.

فالمشهد المتعلق بأزمة سد النهضة الإثيوبي يظل غير واضح، وسط تضارب في التصريحات والمواقف من لدن أطراف الأزمة، فتارة نسمع كلاما حماسيا بعدم التفريط ولو في قطرة من قطرات مياه النيل، وتارة أخرى يُظهر السودان استعداده للموافقة على اقتراح إثيوبي ’’مرحلي‘‘، وأحيانا نرصد حديثا تتداوله بعض المنابر الإعلامية يدور  حول فكرة ’’تسعير ‘‘ مياه النيل باعتبارها سلعة اقتصادية وليست اجتماعية … إلى غير ذلك من الكلام المتميز بسمة التناقض والذي لا يزيد المشهد إلا غموضا.

أما العرب، فقد التزموا الصمت، وتوزعوا أمام ما يحدث بين شهود ومحرضين، وكأن الأمن القومي المصري  ليس من أمنهم و لا يؤثر عليهم !!

X