يتعامل رجال القانون دائما مع نصوص، ورغم ذلك قلما نجد للنص تعريفا في دراساتهم ومؤلفاتهم، ويستعيضون عنه بتعريف القاعدة القانونية وبيان خصائصها ونطاق إعمالها وأوجه التمييز بينها وبين القواعد الاجتماعية الأخرى (كقواعد العادات والتقاليد، وقواعد الأخلاق، وأوامر الدين ونواهيه…) وتصاغ القواعد القانونية على هيئة نصوص، ومن ثم فإن حديثنا عن فحوى النص القانوني هو حديث عن القاعدة القانونية، وحديثهم –رجال القانون- عن خصائص القاعدة القانونية هو حديث عن خصائص النص القانوني الذي يتضمن مبادئ عامة.

ويطلق القانونيون النص ويعنون به (المادة)، فالقانون عندهم يتألف من عدد من النصوص، أي المواد، كل مادة تحمل حكما واحدا على الأقل، وغالبا ما يقال في الأحكام القضائية: تنص المادة (كذا) من القانون رقم (كذا) على (كذا). ومعنى ذلك أن (النص/المادة) هو أصغر وحدة لغوية مستقلة ترد في قانون وتتضمن قاعدة قانونية، أي فرضا وحكما ملزما.

إذن، فالمادة هي أصغر وحدة في القانون يمكن أن يطلق عليها (نص)، وكل قانون هو في حقيقته يتألف من نصوص تصاغ على هيئة مواد. يقول الفقيه السنهوري واضع نصوص القانون المدني: ((ويشتمل هذا الباب –يعني الباب التمهيدي في القانون المدني- على ثمانية وثمانين نصا))[1] ، أي مادة، فالمادة هي النص القانوني.

وإذا جاز لنا التشبيه، فإن المُشرّع الوضعي إنما يحاكي في بنائه للنصوص القانونية بناء متماسكا منسجما، النص القرآني المعجز، فكأنه أراد للمادة القانونية أن تشبه –من الوجهة النصية- الآية في القرآن الكريم من حيث استقلالها بنفسها استقلالا شكليا وارتباطها وتماسكها مع أخواتها ارتباطا معنويا، وأن تمثل كل مادة نصا مستقلا ضمن سياق أكبر هو القانون، كما تمثل كل آية نصا مستقلا ضمن سياق أكبر هو السورة القرآنية، وأن يأتي القانون ضمن سياق أعم هو الدستور؛ إذ لا بد أن تكون أحكام القانون منسجمة مع أحكام الدستور، فهو المرجع الذي تقاس به صحة القوانين ودستوريتها، كما ترد السورة القرآنية ضمن سياق أعم هو سياق النص القرآني، وهو المصدر الرئيس الذي تستقي منه أحكام الشريعة الإسلامية.

وإذا احتوى النص القانوني/المادة على أكثر من فكرة، فإن المشرع يميل في الأغلب إلى تقسيمه إلى فقرات، ومثال ذلك نص المشرع الدستوري على أن:

((العقوبة شخصية.

ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون)).

وقد تنقسم الفقرة الواحدة إلى بندين أو أكثر، وهو ما يعرف بأسلوب التبنيد: أي تقسيم النص القانوني إلى بنود، كل بند يحمل يحمل حكما، أي فعلا قانونيا، وفاعلا قانونيا مخاطبا بهذا الحكم، وذلك على النحو التالي:

أما القاعدة القانونية فتشتمل على عنصرين، هما: الفرض والحكم. والفرض هو التصرف أو الواقعة، والحكم هو النتيجة التي يرتبها القانون على التصرف أو الواقعة المنصوص عليها في هذا الفرض، ويتم ذلك بصفة ثابتة ومطردة، فكلما تحقق الفرض (العنصر الأول في القاعدة) ترتب الحكم (العنصر الثاني في القاعدة)، أي أن يكون هناك ثبات في إعمال الحكم كلما تحققت الشروط اللازمة لإعماله من دون تفرقة في التطبيق، وهذا ما يعبر عنه بسريان حكم القاعدة القانونية على من تنطبق عليه، وعدم الثبات على ذلك يسلب القاعدة القانونية جوهرها وأهم خصائصها ويفقدها دورها في ضبط سلوك الأفراد في المجتمع، فتشيع الفوضى ويفقد الأفراد ثقتهم في القانون والنظام[2].

والنص –كما يقول الدكتور أحمد فتحي سرور- قد يحتوي على قاعدة قانونية أو أكثر، وقد تستخلص القاعدة القانونية من أكثر من نص، والقاعدة هي المضمون المعني من النص، أو بعبارة أخرى، فإن النص هو الشيء أما القاعدة المستخلصة منه فهي المعنى. ومن ثم فإن استظهار القاعدة القانونية لا يتم إلا من خلال عملية فكرية  قوامها التفسير القائم على ضوابط معينة[3].

وقد تستخلص القاعدة القانونية من أكثر من نص بشرط وجود ارتباط بين النصوص التي تتولد منها هذه القاعدة، وقد توجد قاعدة قانونية لا تستند إلى نص، كما هي الحال في العرف أو المبادئ العامة للقانون التي يستخلصها القاضي من مختلف عناصر النظام القانوني.

ومن ناحية أخرى قد توجد نصوص تشريعية لا تنطوي على قواعد قانونية، وذلك عندما لا تتوافر فيها صفة الإلزام أو التي تخلو من صفة الإطلاق (العمومية) أو التجريد[4]، وهما من خصائص القاعدة القانونية كما سيأتي.

ويعرف المستشار طارق البشري النص بصفة عامة بأنه: عبارات محددة بألفاظها يراد بها معنى من المعاني، وهو عبارات مكتوبة أو مروية تثبت برسمها ويتناقلها الناس بحرفها، وإن المتلقي لها يستخلص منها دلالات فكرية حول معنى من المعاني ويرتب عليه النتائج، بمعنى أنها تشكل صيغة من العبارات المحددة بكلمات وألفاظ تفيد معاني وتنتقل إلى الناس بالقراءة أو بالسماع، وهم يتعاملون معها ويتفاعلون معها[5].

ويفرق المستشار البشري بين نوعين للنص، هما:

ـ النص التشريعي: وهو يتعلق بمبادئ وقواعد عامة؛ إذ تصاغ القاعدة العامة أو المبدأ العام في نص هو ما نسميه التشريع أو القاعدة القانونية، وهذا النص (التشريعي) يتشكل في صورة نموذج قابل للتكرار بموجب طبيعته وبمقتضى أصل وظيفته المؤداة أو المقصود تأديتها، وهو آمر بشيء، أو ناه عن شيء، أو مرتب لأثر ونتيجة على فعل أو مقدمة.

ـ النص الإخباري: وهو يتعلق بذكر واقعة أو حادث، ويقوم به دليل على ثبوتها أو نفيها، فهو إذن يتشكل في صورة إخبار عن وقائع الزمان الماضي أو الحاضر، أو يمثل قولا عنها، أو تعليقا عليها، فهو مثبت لوجود ممارسة، وهو ذكر نازلة أو بيان موقف عيني أو فعل لبشر أو قول لبشر.

والنص القانوني هو نص معد لكي يحكم تصرفات الناس بعد صدوره، وهو بأصل وجوده –كما يصفه المستشار البشري- نص ’’متعد‘‘ وليس مجرد نص ’’لازم‘‘ بالمعنى اللغوي لهذين المفهومين. أي أن دلالته لا تقتصر في شأن من أصدره ولا تنحصر في محتوى عيني له، إنما هو دائما يتعدى إلى الغير، بل إن المقصود من إصداره هو أن يتعدى إلى الغير ويحكم أنشطتهم[6]. ويصدر النص القانوني في الحاضر، أي في الزمان الذي يصدر فيه، فلا ترد دلالته ولا أثره على الماضي الذي تم وجرى قبله (مبدأ عدم رجعية القوانين)، فهو دائما نص ’’قبلي‘‘، أي يصدر قبل ما يتعامل معه من أحداث، من حيث استخلاص مفاده مما هو تال لصدوره وخاضع لمجاله، ومن حيث تطبيق دلالته على ما يعقبه.

والنص القانوني بذاته، أي بألفاظه وعباراته، هو نص محافظ؛ لأن وظيفته بما يحمل من أحكام ثابتة أن يحكم واقعا بعده، وأن يلزم حركة الواقع بأشخاصه وعلاقاته بعد صدوره لكي تكون محكومة به غير خارجة عن ضوابطه، وهذه المحافظة لا تعني أنه نص جامد غير قابل للتطوير والتعديل؛ فالنص القانوني وإن كان يتميز بالثبات فهو يتعامل مع واقع متغير، ولذلك يصاغ بحيث يتجاوز زمن صدوره بما يلاحق ما يستجد من حالات. كما يصاغ النص القانوني بحيث يتجاوز حدود ألفاظه وينسحب على حالات ذات تنوع. وهو بذلك يختلف عن النص الإخباري الذي هو نص تاريخي، فالنص الإخباري هو ابن زمن حدوثه، ولا يتعدى إلى وقائع أو أحداث غير ما ورد به، ولا يحكم أحداثا أو أشخاصا غير ما اشتملهم ببيانه، وهو نص ’’بعدي‘‘، أي أنه نتج وصدر بعد الحدث الذي يدل عليه[7].

_______________________

[1]  ـ الدكتور عبد الرزاق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، تنقيح المستشار أحمد مدحت المراغي، القاهرة، 2006، ص 32.

[2] ـ المستشار عليوة مصطفى فتح الباب: أصول سن وصياغة وتفسير التشريعات، مكتبة القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، المجلد الأول، ص 41.

[3] ـ الدكتور أحمد فتحي سرور: الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، ص 217.

[4] ـ الدكتور أحمد فتحي سرور، م.س، ص 217.

[5] ـ المستشار طارق البشري: النص بين التشريع والإخبار، دراسة منشورة على موقع الاتحاد العالمي لعماء المسلمين، 2007، ص 1-3.

[6][6] ـ المرجع السابق، ص 2.

[7] ـ المرجع السابق، ص 5-6.

(المصدر: مقتطف من كتاب: ’’لغة القانون -في ضوء علم لغة النص-دراسة في التماسك النصي‘‘ لمؤلفه الدكتور سعيد أحمد بيومي. من الصفحة 26 إلى الصفحة 31، الطبعة الأولى 2010)

 

مقالات ذات صلة:

ـ المدخل لدراسة القانون: مفهوم القاعدة القانونية

 

 

X