سعيد منصفي التمسماني 

 عندما قال ابن عباد وهو في غمرة الشعور بالمصير المشترك: ’’لأن أكون راعي إبل لدى ابن تاشفين أحب إلي من أكون راعي خنازير لدى ألفونسو‘‘

   بصرف النظر إن كان المعتمد بن عباد قد قال الكلام المعروض في الفقرة أعلاه أم لم يقله، وبصرف النظر عن الصنعة التي خالطت الرواية حتى تداولتها الألسن وألحقت بها الكثير من الخيال، بصرف النظر عن كل هذا، فإن المقولة أعلاه، تعكس حالة نفسية  لمجتمع ذلك العصر، بكل مكوناته، بمؤرخيه وأدبائه وسلاطينه وعامة الناس، لذلك صارت حكيا محكيّا، واستعصت على الزمن  فلم ينل منها ولم يستطع محوها من الذاكرة الجماعية لشعوب المشرق والمغرب.

   بفضل تلك الحالة النفسية الجماعية، التي تُتَرْجِم شعورا عاما بــ ’’المصير المشترك‘‘، استطاع المسلمون أن يمددوا وجودهم في الأندلس إلى غاية أواخر القرن الخامس عشر للميلاد، ولولا ذلك الشعور، لذهبت عدة دول على امتداد الرقعة الإسلامية وانصهرت واحتوتها الدول الغالبة مثلما حدث مع كثير من التنظيمات السياسية التي مرّت عبر التاريخ.

    وتنقل لنا أخبارُ المؤرخين، كيف اقتُطِعت ثغورٌ وقلاعٌ وعواصمٌ من التراب الإسلامي كلما انطوت قلوب أهله على الإحن وراحوا يغدرون ببعضهم البعض، وكيف فقد المسلمون آخر قلاعهم في الأندلس منذ أن بدأ بنو الأحمر يقامرون بــ ’’المصير المشترك‘‘ ويتحالفون مع قشتالة ضد إخوانهم المرينيين في المغرب الأقصى .. كما تنقل لنا الأخبار محطات مشرقة من التاريخ الإسلامي، رأينا فيها ذاك الشعور يشتعل في النفوس فيحولها إلى قذائف نارية ضد كل محتلٍّ غاصِب .. وغير بعيد من هنا، حيث المغرب الأقصى، يتحدّث المؤرخون عن ذاك الشعور بالمصير المشترك الذي جمع المغاربة عند نهاية حكم الوطاسيين وعندما أحسوا بالخطر يتربص بهم وهم في أصعب الظروف .. تقول لنا الأخبار، إن السعديين تحالفوا مع الزاوية الجزولية فتقوى حبلهم، وإن المغاربة استجابوا بفئاتهم للنفير ودعوة الجهاد، وأسقط العلماء شرعية المتوكل على الله لما استنجد بالنصارى واتفق معهم على دخول أصيلا حتى ينصروه، ووصفوا ذلك بــ’’المصيبة‘‘، وأمدّ الأتراكُ عبد الملك السعدي وأخاه أحمد بالسلاح والعُدة، فأتت معركة وادي المخازن سنة 1578م على قدر عزائم أهلها، وانتصر المسلمون انتصارا عظيما، وعادت دولة المغرب الأقصى إلى الحياة بعد أن كانت على شفا جرفٍ يكاد أن يهوى.

   نعيش خلال هذه الأيام أحداثا شبيهة بما حصل بالأمس من حيث الميل إلى التشتت والتفرقة، ونحس بتيّار معادٍ لنا يكبر حجمه في وسطنا وتزداد قوته يوما بعد يوم وهو يضغط علينا في اتجاه إضعاف ذاك الشعور بالمصير المشترك الذي اجتمعنا حوله في يوم من الأيام، ويحاول بلا هوادة تجريدنا منه ومحوه من ذاكـرة ’’الأنا الجماعية‘‘، ونراه يوظّف كل ما يمتلك من وسائل مادية ومعنوية لتحقيق مآربه. وقد تحقق بالفعل بعضها، حتى صار فينا من يردد عكس مقولة ابن عباد .. وما خسارتنا للعراق وسوريا والسودان وليبيا واليمن إلا من ذلك .. وانظر كيف أضحى للعديد من بني جلدتنا استعداد للتطبيع مع الصهاينة وإنكار القضية الفلسطينية التي كانت في يوم ما بوصلة ’’مصيرنا المشترك‘‘، وكيف يتحمس البعض للاصطفاف إلى جانب فرنسا واليونان ضد السيادة التركية على إقليمها البحري .. وهذا لعمري قمة الغباء السياسي وضعف النظر الاستراتيجي .. فهل تساءل بعضنا حول ما سيجنيه لو تحكم الغرب وإسرائيل تحكُّماً مطلقا في شرق المتوسط؟ ألم نستخلص العبرة من دروس التاريخ؟ ألم تسقط غرناطة إلا بعد  سقوط طريف وجبل طارق والجزيرة الخضراء وانقطاع المدد الذي كان يأتيها من الضفة الجنوبية…؟ فإلى كم هذا التمادي في التمادي ؟؟

   إن أخطر ما يخشاه المرء، بينما الأمور تسري على هذا المنوال، أن نستيقظ يوما فنبحث عن دول كانت تشكل عمقنا الاستراتيجي فلا نجدها، مثلما حدث مع العراق، أو أن نحتاج إلى عقول وسواعد الرِّجال فلا نعثر عليهم، ربما لأنهم تركوا أوطانهم بعدما ضاقت بهم الأرض بما رحبت، أو ربما لأنهم باتوا أقرب إلى قول أحدهم:

لَـعَمْرُكَ مَـا ضَـاقَتْ بِـلاَدٌ بِأهْلِهَا

وَلَـكِـنَّ أَخْـلاَقَ الـرِّجَالِ تَـضِـيقُ

X