بقلم: سعيد منصفي التمسماني

أقول، إنه الصراع الذي يغير العالم، وليس الذي سيغيّر العالم، لأن التغيير قد بدأ بالفعل…

إننا نرى جميعا، ’’إسرائيل الكبرى‘‘، بمقولاتها الصهيونية والتوراتية وهي تتصدّع على أرض غزة الصغرى…

وإننا نرى، ولا نتخيّل، كيف أن صورة ’’إسرائيل التي لا تُهزم‘‘، أضحت تختفي شيئا فشيئا من مخيال الإسرائليين أنفسهم لتحل محلها شيئا فشيئا صورة الدولة المركّبة، المرتبكة، المصطنعة، المتوارية، التي لا تمتلك مقومات الدولة الثابتة المتجذّرة ولا نفَسا طويلا للصمود أمام ضغط قوانين التاريخ.

المؤرخ اليهودي الشهير إيلان بابيه أكّد هذا المنحى في لقاء عُقد في مدينة حيفا في 13 يناير 2024 حيث أعلن بوضوح لا يتخلله  التباسٌ احتضار المشروع الصهيوني وأثار الانتباه عندما دعا في كلمته  ’’حركة التحرر الفلسطينية‘‘ للاستعداد لملء الفراغ!!

اليهود الذين يشاركون إيلان بابيه  فكرة احتضار المشروع الصهيوني كثيرون، وأعدادهم تتزايد بشكل لافت بعد السابع من أكتوبر، ونجدهم في مجالات مختلفة: الدينية والفكرية والحقوقية والسياسية والاقتصادية.

وليست كل الصراعات تؤدي إلى تغيير ذي طابع عالمي، إذ التغيير من هذا النوع تلزمه شروط، وهي في تقديري ثلاثة رئيسية. أولها، أن يكون أحد طرفي الصراع عنصرا مؤثرا على المستوى الدولي. ثانيها، أن يتميز الصراع بصفة العالمية. وثالثها، أن يجري الصراع في ظروف تحمل في ثناياها أسباب التغيير.

أما أن يكون أحد طرفي الصراع عنصرا مؤثرا على المستوى الدولي، فهذا أمر لا لبس فيه، فالمشروع الصهيوني الذي ترعاه إسرائيل بأياديها الداخلية والخارجية المُنفِّذة والمُتَنفّذة متغلغل بقوة في الدول الكبرى وفي شتى المناحي السياسية  والمالية والإعلامية على مستوى العالم، وتأثيرها كبير لا يكاد يوصف فإذا ما أصاب الراعي وهنٌ، انعكس ذلك على المشروع برمته وعلى من يتبناه من الأطراف الأخرى.

أما عن عالمية الصراع، فالأمر له وجهان: وجهٌ يشير إلى انخراط القوى الكبرى ومن يدور في فلكها في الصراع على النحو المباشر أو غير المباشر، وما نشاهده خير مُعبّر عن هذا الواقع الذي تتحرك فيه الدبلوماسية الدولية بكل ثقلها والأساطيل الحربية والعتاد العسكري المُدمِّر للقوى الكبرى بشكل غير معهود. والوجه الثاني،  له صلة بغزة، وأهل غزة، الذين تحولوا إلى مثال في التضحية والصمود، وعنوان للتصدي لجميع أنواع الاحتلال وللرأسمالية المتوحشة العنصرية والظلم والاستبداد، ومن ثمة أضحت غزة -الصغيرة المحاصَرة- بمقاومتها ودمائها نموذجا إنسانيا عالميا ملهما لشعوب العالم، في وقت عزّ فيه الصمود وعمّ الاستسلام واحتاج فيه الأحرار إلى شعلة أمل، فلاحــت غزة من بعيـــد، لتتحرك الحشود في العواصم على وقعها وتتغيّر المفاهيم حول القضية الفلسطينية في الوعي الجماعي على هدْيها.

وأما أن يجري الصراع في ظروف تحمل في ثناياها أسبابَ التغيير، فهذا شرطٌ ثالثٌ حاضر، نرصده جميعا في السياق الدولي الحساس الذي يدور فيه الصراع. وهو سياقٌ ليس في صالح الغرب وإسرائيل، تجتاحه حربٌ استراتيجية كبرى بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها حلف ’’الناتو‘‘، وتنشغل فيه الولايات المتحدة الأمريكية بحرب اقتصادية وتكنولوجية لا هوادة فيها مع العملاق الصيني المرشح أن يصير اقتصاده أكبر اقتصاد على مستوى العالم سنة 2030 في مقابل اقتصاد أمريكي يعاني من المديونية المرتفعة والتضخم وتراجع القطاع الصناعي من حيث مكونات ناتجه الداخلي الخام كما أنه يقاوم للحفاظ على مكانة الدولار الذي بات في وضع غير مريح بسبب قيام الصين وروسيا ودول أخرى بمحاولات لإحداث تغيير جذري في النظام المالي الدولي مما سيؤدي حتماً إلى تجريد الدولار من قوته المالية المُدمّرة التي اعتادت واشنطن على توظيفها ضد الخصوم.

إننا بالفعل أمام صراع بدأ يغير العالم، بطبيعة أطرافه وتداعياته وسياقه، وذلك بمعزل عنما تقوله واشنطن أو لندن أو ما تقرره بعض المؤسسات الدولية الوظيفية، وبمعزل كذلك عن النتائج الميدانية التي سيفرزها العدوان على غزة وعن الخطط المزعومة لما بعد الحرب، فالعبرة هنا  في نوع الصراع القائم بين الحق والباطل، والذي تكون فيه الغلبة دائما للحق مهما طال الزمن…

وأمارات التغيير أخذت تنجلي للناس، ومقدمته قد بدأت في إسرائيل بمساءلة عقيدتها الأمنية والوجودية، واصطدام مكوناتها الداخلية بين العلمانيين ومتطرفي اليمين، وتنامي أصوات يهود العالم المعارضين لمشروع الصهيونية، وتحوّل عدد كبير من اليهود إلى لاجئين داخل ’’دولتهم‘‘ في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وعجز المنظومة الأمنية العسكرية عن حماية الحدود وضمان الأمن.

نتساءل: لماذا اختارت الدول العربية وضعية المنفعل بدل الانتقال إلى وضعية الفاعل اغتناما لهذا الحدث المفصلي في حركة التاريــخ…؟

 نحن أمام رسائل وإشارات كشف عنها المقاومون من غزة .. فهل من مُعتبِــــر ؟؟

(سعيد منصفي التمسماني)

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني

 

X