الفهرس 

أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، أبرز الفلاسفة المسلمين، وُلد في قرطبة سنة 1126م، عندما كان حكم المرابطين على وشك الانهيار ليبدأ بعده عهد الموحدين، الذين قضى ابن رشد جزءا مهما من حياته إلى جانب سلاطينهم، حيث قدمه أستاذه الفيلسوف ابن طفيل إلى السلطان المستنير أبي يعقوب يوسف الذي كلفه بوضع الشروح والتفاسير على مؤلفات الفيلسوف اليوناني أرسطو ’’حتى تستقيم عبارتها وتبرأ مما لحقها من عيوب الترجمة‘‘.  

عندما مات السلطان أبو يعقوب يوسف، سنة 1184م، استمرت حظوة أبي الوليد عند خلفه السلطان ’’المنصور أبي يوسف يعقوب‘‘ لفترة وجيزة، أعقبتها المحنة التي امتحن بها في فكره وعقيدته سنة 1195م حيث نُفي إلى مكان على مقربة من قرطبة مع عدد من المشتغلين بالحكمة والعلوم، وأحرقت كتبه، وسائر كتب الفلسفة…

وعندما انقشعت سحابة هذه المحنة، عادت لابن رشد حظوته لدى السلطان، ومكانته في البلاط المغربي، ومكانة الفلسفة والعلوم العقلية في البلاد. ولكن المَنيّة لم تمهله بعد ذلك كثيرا، فتوفي في بداية حكم السلطان ’’الناصر‘‘ سنة 1198م.  

والنصوص التي ننقلها في هذا المقال، مأخوذة من كتاب ابن رشد المسمى ’’فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال‘‘. وقد أراد صاحبه من خلاله إثبات إخاء الحكمة/الفلسفة للشريعة وتقديم المنهج الذي نصل باستخدامه إلى الإيمان بهذا الإخاء. ذلك أن الفلسفة في هذه الفترة، كانت ’’تتأرجح بين العقل والنقل، أي بين المعرفة التي يؤدي إليها التأمل والنظر العقلي، وبين المعرفة التي جاء بها الوحي والدين‘‘.  

وقد اخترنا من الكتاب المذكور، أربعة نصوص، وردت تحت العناوين الآتية: ’’حكم دراسة الفلسفة‘‘، و’’شروط النظر‘‘، و’’مراتب الناس‘‘، وعلاقة الحكمة بالشريعة‘‘.

[حُكْمُ دراسة الفلسفة]   

’’فإن الغَرضَ من هذا القول أن نفْحَصَ، على جهة النّظَر الشّرعي، هل النّظَرُ في الفلسفة وعلوم المنطق مُباحٌ بالشرع؟ .. أم محظورٌ؟؟ .. أم مأمورٌ به، إمَّا على جِهة النَّدْبِ، وإمَّا على جهة الوُجوب؟؟  

فنقول: إنْ كان فِعْلُ الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النّظَر في المَوْجوداتِ، واعتبارِها، من جهة دلالتها على الصّانِعِ، أعْني من جِهة ما هِيَ مصنوعاتٌ، فإن الموجودات إنّما تَدُلُّ على الصّانع بمعرفة صَنْعَتِها، وأنّه كلمّا كانت المعرفة بصنعتها أتَمَّ كانت المعرفة بالصّانع أَتَمَّ.  

وكان الشّرْعُ قد ندَب إلى اعتبار الموجودات، وحَثَّ على ذلك، فَبَيِّــنٌ أن ما يَدُلُّ عليه هذا الاسمُ إمّا واجبٌ بالشّرع، وإما مندوبٌ إليه.  

فأمّا أنّ الشّرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلّب معرفتها به، فذلك بَيِّنٌ في غير ما آية من كتاب الله تباركَ وتعالى، مثل قوله تعالى ﴿فاعتبروا يا أُولي الأْبصار﴾، وهذا نَصٌّ على وجوب استعمال القياسِ العقليِّ، أو العقليِّ والشّرعيِّ معًا.  

ومِثْلَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿ألَمْ يَنظروا في مَلَكوتِ السَّمَوَاتِ والأرضِ وما خَلقَ اللهُ من شيء﴾، وهذا نَصٌّ على النَّظَر في جميعِ الموجودات.  

وِأَعْلَمَ اللهُ تعالى أن مِمَّنْ خَصَّهُ بهذا العلمِ وشرَّفَه بهِ، إبراهيمَ عليهِ السّلام، فقال تعالى: ﴿وكذلك نُرِي إبراهيمَ ملكوت السَّموات والأرض﴾ .. وقال تعالى: ﴿أفلا ينظرون إلى الإبِلِ كيْفَ خُلِقت، وإلى السّماءِ كيْفَ رُفِعَتْ﴾، وقال: ﴿ويتَفَكَّرون في خَلْقِ السّموات والأرض﴾ إلى غيْرِ ذلك من الآياتِ التي لا تُحْصى كَثْرَةً‘‘.

[شروطُ النّظَر]   

’’وليْسَ مِنْ أنّه إن غوى غَاوٍ بالنّظر فيها، وزَلَّ زالٌّ، إمّا مِن قِبَل نَقْص فِطْرَته، وإمّا مِن قِبَلِ سوءِ تَرتيبِ نظرهِ فيها، أو مِنْ قِبَلِ غَلَبَة شهواته عليه، أو أنه لم يجد مُعَلِّمًا يُرشِدُهُ إلى فهْمَ ما فيها، أو مِن قِبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها، أن نَمْنَعَها عن الذي هو أَهْلٌ للنظر فيها، فإن هذا النَّحْوَ من الضّرر الدّاخِل مِن قِبَلها هُو شيْءٌ لحِقَها بالْعَرَضِ لا بالذّات، وليس يجبُ فيما كان نافعا بطِباعه وذاتِه أن يُتْرَك لمكان مَضَرَّةٍ موجودَةٍ فيه بالْعَرَضِ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لِلَّذي أَمَرَه بِسَقْيِ العسَلِ أخاهُ لإسهالٍ كان به فَتَزَيَّدَ الإسْهالُ به لمّا سقاهُ العسلَ، وشكا ذلك إليه: {صدَقَ اللهُ، وكَذبَ بَطْنُ أخيك}.  

بل نقولُ: إنَّ مَثَلَ من منع النّظرَ في كُتبِ الحكمة من هو أهْلٌ لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يُظَنُّ بهم أنهم ضلّوا مِن قِبَلِ نَظَرِهم فيها، مَثَلُ مَن منع العطْشانَ شُرْبَ الماءِ البارِد العذْبِ حتى مات من العطش، لأن قوما شَرَقوا به فماتوا، فإن الموتَ عن الماء بالشَّرَقِ أمْرٌ عارِضٌ، وعن العَطَش أمرٌ ذاتيٌّ ضروريٌّ.  

وهذا الذي عَرَضَ لهذه الصناعة هو شيْءٌ عارضٌ لسائر الصّنائع، فكم من فقيهٍ كانَ الفِقهُ سَبَبًا لقلِّة تَوَرُّعِه، وخَوْضِه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء نجدهم، وصناعتهم إنّما تقتضي بالذات الفضيلَةَ العَمَلِيَّةَ.  

فإذاً لا يَبْعُدُ أن يَعْرضَ في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية ما عَرَضَ في الصناعة التي تقتضي العملية‘‘.

[مراتِبُ النّاس]   

’’وإذا تقرّر هذا كلُّه، وكنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حقٌّ، وأنها التي نبَّهَتْ على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله عزّ وجلّ، وبمخلوقاته، فإن ذلك مُتَقَرِّرٌ عند كل مسلم من الطريقِ الذي اقْتَضَتْه جِبِلَّتُه وطبيعَتُه من التّصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلةٌ في التصديق، فمنهم من يُصَدّقُ بالبُرْهان، ومِنهم مَن يُصَدِّقُ بالأقاويل الجَدَليَّة تَصْديقَ صاحبِ البُرْهان بالبُرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يُصَدِّقُ بالأقاويل الخطابيّة كتصديق صاحبِ البرهانِ بالأقاويل البُرهانيّة.  

وذلك أنه لمّا كانت شريعَتُنا، هذه الإلهيّة، قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عَمَّ التَّصديقُ بها كُلَّ إنسان، إلا من جحدها عنادا بلسانه، أو لم تتقرّر عنده طُرُقُ الدُّعاء فيها إلى الله تعالى، لإغْفاله ذلك من نَفسه.  

ولذلك خُصَّ عليه الصّلاة والسّلام بالبَعْث إلى الأحمر والأسود، أعني لِتَضَمُّنِ شريعتهِ طُرُقَ الدُّعاء إلى الله تعالى، وذلك صريحٌ في قوله تعالى: ﴿أُدْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي  أحْسَن﴾‘‘.

[علاقة الحكمة بالشريعة]  

’’وإذا كانت هذه الشريعة حقًّا، وداعيَةً إلى النّظر المُؤدِّي إلى معرفة الحقّ، فإنّا معشر المسلمين، نَعلمُ، على القَطْع، أنّه لا يُؤدّي النّظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشّرْعُ، فإنّ الحقّ لا يُضادُّ به الحقَّ، بل يوافقه ويشْهَدُ له.  

وإذا كان هذا هكذا، فإن أدّى النّظرُ البُرهانيُّ إلى نَحْوٍ ما من المعرفة بموجودٍ مّا، فلا يخلو ذلك الموجودُ أن يكون: قد سكتَ عنه الشّرْعُ أو عرَّفَ به.  

فإذا كان قد سكت عنه، فلا تعارُضَ هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنْبَطها الفقيه بالقياسِ الشّرعيّ.   

وإن كانت الشريعةُ نَطَقَتْ به، فلا يخْلو ظاهِرُ النُّطْق أن يكون مُوافقاً لما أدّى إليه البرهان فيه، أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طُلب هنالك تأويله‘‘.

المصدر: ’’فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال‘‘، تأليف أبو الوليد بن رشد، تحقيق: د. محمد عمارة.

X