غــــــ ـــزّة  تُسقط الأقنعة

بقلم: سعيد منصفي التمسماني

 

إن ما يحدث في غزة جريمة مكتملة الأركان، تنفِّذها أيادي الاحتلال الصهيوني، بمشاركة واشنطن ومباركتها، وغطاء سياسي وإعلامي غربي، وموقف رسمي عربي وإسلامي خجول ومتردّد لا يرقى إلى مستوى إرادة الشعوب ونطلعاتها.

والجريمة، عن سبق وإصرار، المرتكبةُ بقصف المستشفى المعمداني وسقوط أزيد من 500 شهيد، ما هي إلا وجه معتاد من وجوه الإرهاب الصهيوني المُدعّم دوليا من الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها .. أما الرفض العربي الرسمي للمجزرة، وإلغاء القمة الرباعية العربية التي كانت مقررة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن بعمّان، وإصدار إدانات رسمية... فإن ذلك كله يظل مجرّد إعلان عن النوايا والحالات النفسية لأصحابها، وبمثابة منشورات كتابية لا تتجاوز قيمتُها قيمةَ مدادها، لا تُغيّرُ وضعاً ولا تَصْنَعُ نفعاً، ما لم تُسْتتبع بإجراءات عمليّة مُؤثِّرة تربط الكلام بالعمل.

أسقطت غزّة قناع الأمثولة الديمقراطية الغربية وما يدّعيه أصحابها من حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، وأزالت الالتباس بشأن موقف الغرب تجاه القضايا العربية والإسلامية، وكشفت الوجه المخيف الحقيقي لذاك الغرب الرأسمالي المراهن على إسرائيل والراغب بكل قواه وغرائزه في استمرارها كرأس حربة في الشرق الأوسط وحارسٍ وفيّ لمصالحه الاقتصادية ومُخططاته الإمبريالية حتى لو اقتضى ذلك ارتكاب أفظع الجرائم وإبادة شعب على نحو كامل!!

ونسفت غزّة أسس البناء الطوباوي لفكرة التطبيع وإقامة السلام مع إسرائيل، ذلك أن إسرائيل لم تؤمن في يوم ما بالسلام مع العرب ولم تتخلّ أبدا عن نزعتها الإيديولوجية الدينية القائمة على أساس العمل من أجل التوسّع في اتجاه ’’استرجاع الحدود التوراتية‘‘.

والحدود التوراتية في مفهوم الإيديولوجية اليهودية هي ((الأرض التي كانت في قديم الزمان إما محكومة من حاكم يهودي كائنا من كان، وإما موعودة لليهود من الله في التوراة))!!

ألم يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن الحرب على قطاع غزّة من شأنه إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط من جديد؟ ألا يسعى إلى عقد تحالفات واتفاقات مع الدول العربية على حساب القضية الفلسطينية وإفراغ قطاع غزّة من سكانه بهدف احتلاله نهائيا والمضيّ قدما في مخطط التوسع الإقليمي؟ ألا يذكرنا إعلان نتنياهو بما قاله بن غوريون في اليوم الثالث من بداية حرب السويس سنة 1956 أمام الكنيسيت حين أعلن أن السبب الحقيقي لتلك الحرب هو ’’إعادة مملكة داوود وسليمان إلى حدودها التوراتية‘‘؟

نعتقد أن إعلان إسرائيل عن نفسها كدولة يهودية وما يقتضيه ذلك من سياسات إقصائية وأطماع توسعية من جهة، وقيامها على أساس الارتباط الوثيق بمخططات الغرب الإمبريالية ومصالحه الاقتصادية على حساب الدول العربية من جهة أخرى، هما عاملان ثابتان لا يسمحان بتبرير عمليات التطبيع ولا الدفع من طرف المُطبعين بمقولة الوقوف مع حقوق الشعب الفلسطيني، لأن طبيعة الدولة اليهودية وارتباطاتها بالإمبريالية العالمية يفرضان على الطرف الآخر، أي المُطبِّع، إما أن ينخرط في نفس المشروع أو أن يصطفّ ضده، ولايمكن في أي حال من الأحوال أن يَكون المرءُ الشيءَ ونقيضه أو أن يوَفّق بين النقيضين.

ونستدلّ في هذا السياق، بما سبق أن عبّر عنه البروفسور إسرائيل شاحاك عندما قال: ((إن الخطر الرئيسي الذي تشكّله إسرائيل ’’كدولة يهودية‘‘، على شعبها واليهود الآخرين وجيرانها، هو سعيها بالدافع الإيديولوجي، إلى التوسع الإقليمي، وسلسلة الحروب المحتومة الناتجة عن هذا الهدف، فكلما أصبحت إسرائيل أكثر يهودية –وهي عملية جارية في إسرائيل، على الأقل، منذ العام 1967-، كانت سياستها تسترشد بالاعتبارات الإيديولوجية اليهودية أكثر مما تسترشد بالاعتبارات العقلانية…. فالدفاعات الإيديولوجية للسياسات الإسرائيلية تقوم عادة، على المعتقدات الدينية اليهودية، أو كما في حالة اليهود العلمانيين، على ’’الحقوق التاريخية‘‘ لليهود، المستمدة من هذه المعتقدات نفسها، والتي تحتفظ بالطابع العقائدي للإيمان الديني)).

ومن تقديراتي، أن اصطفاف أمريكا مع إسرائيل بعتادها وجنودها وإعلامها ومعهما دولٌ من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، وإقدام إسرائيل على هجومٍ تَدْميري بلا حدود ولا حساب، حيث إنها أسقطت ما يوازي ربع قنبلة نووية على قطاع غزة الصغير حتى الآن، حسب ما أعلنه المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، واستخدامها الفوسفور الأبيض، وفق ما أكّدته منظمّة العفو الدولية، كل هذه التصرفات الإجرامية المرتبكة هي أماراتٌ دالّةٌ على أن شيئا ما عظيما قد آلَم حلفاء الظلم إيلاما شديدا بسبب زلزال السابع من أكتوبر.

فإذا ما تركنا جانبا مخطط التوسع الإقليمي الإسرائيلي القائم منذ احتلال إسرائيل لفلسطين، سنرى حاليا أن ثمة مستوييْن تأثرا بوَقْع ما حدث،  وتريد الأطراف المعنية أن تعالج الأضرار بكل الوسائل المتاحة حتى لا تمتدّ الآثار إلى ما هو أعقد وأخطر.

المستوى الأول، يتعلق بإسرائيل وأمنها واقتصادها. فلا شك في أن أحداث السابع من أكتوبر قد أحدثت تصدّعا عميقا في أسس أمن إسرائيل وروايتها ’’الأمنية‘‘، وأعادت مسألة قضية وجودها إلى دائرة السؤال، ليس من طرف الغير فقط، بل حتى من طرف الإسرائليين أنفسهم على اختلافهم.  رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك اعتبر الحدث بمثابة ضربة وجودية لفكرة إسرائيل كوطن آمن للشعب اليهودي. ولا يقل الوضع الاقتصادي ارتباكا عن الوضع الأمني. تقرير لموقع ’’غلوبس‘‘ المختص بالاقتصاد الإسرائيلي، حذّر من اقتراب تعرض إسرائيل إلى تباطؤ اقتصادي حادٍّ. فالحرب الجارية تسلتزم  تعبئة أزيد من 350 ألف من جنود الاحتياط، وهؤلاء يعملون في الفترات العادية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات، والزجّ بهم في الحرب يعني حرمان الاقتصاد من إنتاجهم، وهم يمثلون حوالي 15% من نسبة العاملين البالغ عددهم الكلي 4,4 مليون شخص تقريبا، وبالتالي، فإن استبعادهم من الاقتصاد للانخراط في الحرب لا بُدّ أن تكون كلفته عالية وانعكاساته الاجتماعية مُدمِّرة كلما طال أمد الحرب. ويزداد المشهد الاقتصادي الإسرائيلي قتامة إذا ما استحضرنا  ما كتبته صحيفة ’’غلوبس‘‘ ذاتها في تقرير بتاريخ 18 أكتوبر 2023، تحدثت فيه عن أهمية أراضي غلاف غزة بالنسبة للأمن الغذائي الزراعي للسوق الإسرائيلية، ونقلت من خلاله تصريحات عن عميت يفراح، رئيس اتحاد المزارعين الإسرائيليين، أوضح فيها أن 75% من الخضروات المستهلكة في إسرائيل تأتي من غلاف غزة، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب. وتُعرف هذه المنطقة باسم ’’رقعة الخضار الإسرائيلية‘‘، التي تحتوي أيضا مزارع للدواجن والماشية، إلى جانب مزارع للأسماك. واستمرار حالة الحرب يعني خروج أهم المجالات الزراعية عن العمل لقربها من العمليات العسكرية، وهو ما سيؤثر بكل تأكيد على الأمن الغذائي الإسرائيلي، وستصبح المساعدات الأمريكية الاقتصادية والمالية لإسرائيل مسألة حياة أو موت.

أما المستوى الثاني، فهو مرتبط بالولايات المتحدة الأمريكية وكيف نفسّر موقفها المنحاز كاملا لإسرائيل. وهنا، علينا أن نضع في الحسبان، أن ضربة حماس ونهجها يشكلان خطرا على المصالح الأمريكية في المنطقة، ومن ضمنها، حسابات الطاقة ومشاريعها، ومشروع الممرّ التجاري بين الهند وأوروبا عبر دول الشرق الأوسط مرورا بإسرائيل والأردن والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية المعلن عنه في 9 سبتمبر 2023 على هامش قمة مجموعة العشرين في نيودلهي. فإذا لم تُطوّق تداعيات ضربة السابع من أكتوبر، فسيكون ذلك نَسْفا لهذا المشروع في مهده، والذي أُسِّس لمقابلة نفوذ الصين وروسيا وإفراغ مشروع طريق الحرير من قيمته. ثم علينا أن نتذكّر أن إطالة أمد الحرب سيكون لصالح روسيا في حربها مع أوكرانيا ولصالح الصين في ملف تايوان وملفات أخرى، ومن الصعب جدا أن تستطيع واشنطن تقديم الدعم الكافي لكل من أوكرانيا وإسرائيل والتصدي في آن واحد للتحديات الصينية، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار المشاكل الاقتصادية لأمريكا وما تسجله ميزانيتها العامة من عجز قياسي وضرورة تسديدها 7 تريليونات دولار من السندات الحكومية خلال السنة المقبلة .. وبالجملة، فإن المشهد الاقتصادي الأمريكي ليس في وضع يسمح له بفتح جبهة استنزاف جديدة.

إذن، فالوضع الناتج عن السابع من أكتوبر بكل أبعاده حمّالٌ لعدة قراءات، وأبرزها في نظري، أن استمرار الحرب لمدة طويلة سيُدْخل إسرائيل في مغامرة غير محسوبة العواقب.

إن الجريمة المرتكبة في حق غزّة وأهل فلسطين عموما، من ضمن الجرائم الكبرى الإسرائيلية التي لا تسقط بالتقادم، علاماتها وآثارها واضحة وموثقة، والقصد فيها مع سبق الإصرار بيِّن، والاعتراف بارتكابها من طرف الفاعل أبْيَن، والمسألة مسألة وقت فقط لمحاسبة المجرمين. والقانون الدولي واضح في هذا الموضوع، والمادة السادسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية  حدّدت الإبادة الجماعية بأنها ’’إخضاع جماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئيا…‘‘، ورغم عِلمنا بأننا أمام قاعدة قانونية انتقائية وليست عامة ومجردة، ما دام أن الذين يقودون ’’النظام العالمي‘‘ يستثنون إسرائيل من تطبيقاتها، فإن الوضع لا بُدّ له أن يتغيّر في المستقبل.

وقد يتساءل المواطن العادي البعيد عن مسرح الجريمة عنما يمكن تقديمه لمساعدة أهلنا في غزّة.  والحقيقة أنه توجد عدة وسائل يمكن الإسهام بها على المستوى الشعبي والجماعي  والفردي. وما يجب القيام به الآن، على وجه الخصوص، هو تحريك دعاوى قضائية جنائية أمام المحاكم والمؤسسات القضائية الدولية، والأمر هنا متروك لرجال القانون، أما على المستوى الإعلامي والإلكتروني فالأمر يقع على مسؤولية الجميع، كل حسب إمكاناته ورصيده المعرفي، والعملُ يجب أن يركّز على الرأي العام الدولي ومخاطبته بلغته التي يفهمها، وإحداث تكتلات إلكترونية للعمل المشترك، والبحث عن منصات بديلة للمواقع الاجتماعية التي أبدت دون استحياء انحيازها لإسرائيل، بل يجب التفكير في الذهاب بعيدا بهدف تأسيس منصات جديدة بأموال وعقول عربية، وذلك ليس مستحيلا إذا تكتلت الجهود وأخلصت النيات.

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني
X