الفهرس

الكاتب: سعيد منصفي التمسماني

   يحاجج الإسبان عند إثارتهم لموضوع مدينتي سبتة ومليلية، بأنهما كانتا توجدان تحت الإدارة الإسبانية من قبل تأسيس المملكة العلوية المغربية؛ وهم يرومون من خلال ادعائهم هذا، إضفاء الطابع القانوني على احتلالهم للثغرين المغربيين؛ متجاهلين كل قوانين التاريخ والاجتماع والجغرافيا في هذه المسألة بالذات.     

وأبْيَن خلل يعتري منطق القائلين بهذا الادعاء، كونهم يختزلون تاريخ دولة المغرب الأقصى في أسرة العلويين، متناسين أن العلويين يمثلون فقط سلطة من جملة السلطات والبيوتات التي تعاقبت على حكم الدولة المغربية التي ظلت مستمرة في الزمان والمكان منذ عهد المرابطين، ولم يؤثر ذهاب سلطة وقيام أخرى على استمراريتها، لأن اللاحق كان على الدوام متصلا بالسابق، مقتبسا منه، محافظا على مكتسباته، سائرا على تراتيبه الإدارية والتنظيمية ومضيفا عليها عند الاقتضاء ما يتماشى مع ظروف عصره؛ كما أن انتقال السلطة من بيت إلى آخر لم يكن مُحدثا لقطيعة ثقافية أو اجتماعية.

وعلى الإسبان أن يحذروا من تداول مثل هذه الحجج الواهية لأنه بالإمكان استعمالها ضدهم .. فالمسلمون إذا ما نهجوا نفس المنطق أمكنهم أن يقولوا بأن الأندلس كانت تحت سلطتهم فبل نشأة الدولة الإسبانية التي يُجمع معظم المؤرخين أن تأسيسها تمخّض عن زواج ملك أراغون فرناندو الثاني بملكة قشتالة إيسابيل الأولى سنة 1469م، وأن الاتحاد بين المملكتين كان في بدايته قائما على العلاقات الشخصية بين الملوك، ولم يكتسب طابعا سياسيا مستقرا إلا بعد مرور وقت طويل. ومن ثمة، من حق المسلمين الذين طردوا قبل  هذا الحدث أو بعده أن يوظفوا نفس الحجة للمطالبة بعودتهم إلى ديارهم الأندلسية !!    

على أية حال، يتطلب التعاطي مع ملف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين التحلي بالموضوعية، ونبذ الخلفيات الثقافية السلبية، والنظر إلى المستقبل، وإلى الجوانب الإيجابية والمصالح المشتركة التي تربط إسبانيا والمغرب.    

وفي هذا المقال، سنركز، بصورة مختصرة، على الأهمية الاستراجية لمدينة سبتة  على امتداد تاريخ الدولة المغربية، حتى يتمكن القارئ من اكتساب رؤية حول الموضوع. أما موضوع مليلية، فسنتركه لمناسبة أخرى إن شاء الله. 

* * *

احتلت سبتة وطنجة مكانة مهمة في سياسات الدولة المغربية، فالأمير يوسف بن تاشفين لم يعزم العبور إلى الأندلس إلا بعد إخضاعه لسبتة سنة 1084م.    

وقد كانت هاتان المدينتان مذ عهد الموحدين كما قال ابن خلدون ((من أعظم عمالاتهم، وأكبر ممالكهم بما كانت ثغر العدوة ومرفأ الأساطيل، ودار إنشاءة الآلة البحرية، و فرضة الجواز إلى الجهاد)).     

وقد أدْرَجَهُما الموحدون ضمن ولاية واحدة. وعندما عقد الخليفة الرشيد (الموحدي) (1232ـ1242م) على أعمال هذه الولاية لأبي علي بن خلاس من أهل بلنسية، قام هذا الأخير، بعد مهلك الرشيد، فصرف الدعوة إلى الحفصيين بإفريقية مستغلا حالة الضعف التي وصل إليها الموحدون، فولّى على طنجة يوسف المعروف بابن الأمير، بينما تولّى شؤون سبتة أبو يحيى من قرابة الأمير زكريا صاحب إفريقية.      

وفي سنة 1249م، انتفض أهل سبتة على بني حفص وصرفوا الدعوة إلى الخليفة الموحدي المرتضى (1248ـ1266)، وقد حدث ذلك بتدبير من أبي القاسم العزفـي كبير المشيخة بسبتة الذي جنى ثمار تخطيطه بأن عقد له الخليفة المرتضى على سبتة.     

أما طنجة، فقد كانت كما قلنا سابقا تحت نظر ابن الأمير، و قد ظل أمرها متأرجحا بين التبعية للعزفي وبين استبداد واليها ابن الأمير، فمالت الكفة في النهاية لصالح العزفي إلى أن افتتحها السلطان يعقوب المريني سنة 672هـ / 1273م؛ ثم دخلت سبتة في نفس السنة في طاعة المرينيين بعد اتفاق بينهم وبين العزفي بموجبه يستمر هذا الأخير متحصنا بها يؤدي للسلطان خراجا معلوما كل سنة.    

وقد بقي أمر سبتة في عقب العزفي إلى سنة 728هـ/1328م، أي إلى أن دخلها السلطان أبو سعيد، فألغى النظام الخاص الذي كانت تُسَيّر به، وبالتالي أمست تابعة بصفة مباشرة للسلطة المركزية بفاس.     

ويجب التذكير، أن سبتة، ونظرا لموقعها الاستراتيجي، كانت دائما تشكل نقطة صراع القوى السياسية: المرينيون، بنو الأحمر، القشتاليون، و العزفيون، فكان بالتالي مصير المدينة يتغير بتغير موازين هذه القوى.    

وفي سنة 1384م سيعاود ابن الأحمر ضم مدينة سبتة إلى إمارة غرناطة، ليسترجعها المرينيون سنة 1387م.

ولما حلّ المرض بجسم الدولة وضعفت محاميها ودفاعتها، قام البرتغاليون فاحتلوا المدينة، في غفلة من أهلها، وذلك في تاريخ 21 أغسطس 1415م.    

إلا أن الهزيمة القاسية التي سيتكبدها البرتغاليون في مواجهة الجيش المغربي في عهد السعديين خلال معركة وادي المخازن سنة 1578م، ستضعف مركزهم، وستضطرهم إلى التخلي عن سبتة للإسبان، وبعد ذلك بقليل، أي في حدود سنة 1580م، ستفقد البرتغال سيادتها بالكامل لصالح الملك فيليبي الثاني، ولن تستقل عن التاج الإسباني حتى سنة 1640م.    

لكن سبتة ظلت دائما في ذاكرة المغاربة ووجدانهم، وقد حاول السلطان إسماعيل العلوي تحريرها فامتنعت، وعاود السلطان محمد الثالث الكرة فلم ينجح. وحول هذا قال المؤرخ جورج هوست، بأن السلطان المغربي (محمد الثالث)، كان قد أخبر ملك إسبانيا بعزمه فتح جبهة لتحرير سبتة، وطمأنه بأن الموانئ المغربية ستظل مفتوحة أمام التجار الإسبان.    

وقد استمرت سبتة تشكل مصدر قلق للسلطة المغربية، وبؤرة نزاعات بين المغاربة والإسبان، فكانت تحدث على حدودها مناوشات، كانت تتحول في بعض الأحيان إلى صراعات دموية، أو إلى إشعال حرب، كتلك التي دارت رحاها سنة 1860م، المعروفة بحرب تطوان، والتي من جرائها ستدخل الخزينة المغربية في ديون ثقيلة كان لها وقع كبير على استقلالية القرار المغربي.    

هكذا كانت سبتة وما زالت، منذ المرابطين، إلى الموحدين، فالمرينيين، … ثم إلى إسماعيل، إلى محمد الثالث، إلى محمد الرابع … إلى اليوم .. حاضرة في وجدان المغاربة تحرّك مشاعرهم كلما تذكّروها أو كلما سمعوا حولها ما يخدش كبرياءهم .. وعلى هذا المنوال سيستمر الأمر، إلى أن يُحدث الله أمرا كان مفعولا.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع: ـ كتاب العبر لابن خلدون، ’’الخبر عن افتتاح مدينة طنجة وطاعة أهل سبتة وفرض الأتاوة عليهم‘‘ و ’’الخبر عن انتفاضة العزفي بسبتة…‘‘.ـ كتاب الاستقصا للشيخ الناصري ج.3 .ـ كتاب ’’تاريخ المغرب ـ تحيين وتركيب ـ ‘‘ مجموعة مؤلفين.ـ كتاب ’’التنظيم الترابي في إطار الجهوية المتقدمة‘‘ ـ الجزء الأول: ’’السياق التاريخي للتنظيم الترابي وتكوين الشخصية المغربية‘‘، لصاحبه: سعيد منصفي التمسماني.

ــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة:

ـ أزمة الفنيدق أم أزمة تدبير؟

X