سعيد منصفي التمسماني
الصحراء مغربية .. أقولها، ليس من باب التعصب و لا بغرض التحيز إلى فريق على حساب الآخر، وإنما من باب الموضوعية، من باب التاريخ والاجتماع والشواهد والآثار.
ومغربية الصحراء تعني فيما تعنيه، أنها جزء لا يتجزأ من تراب المغرب الأقصى. والمقصود بالمغرب، ذلك المجال الترابي والاجتماعي التاريخي الذي انصهرت مكوناته البشرية، من أمازيغية وعربية وأندلسية وإفريقية، منذ منتصف القرن الثامن الميلادي إلى الآن، حتى بلغت درجة عالية من التداخل والانصهار، في إطار الدولة المغربية التاريخية. فلا يكاد، أو بالأحرى، لا يجرؤ المرء في وقتنا أن يدّعي أنه سليلٌ أصيلٌ من هذا العرق أو ذاك .. ومن يقل بذلك، فاعلم أنه لم يستوعب حركة تطوُّر الشخصية المغربية عبْر التاريخ.
و لا يجادل اثنان في أن الأمازيغ هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا من برقة إلى المحيط ومن الشمال إلى الصحراء. وفي جنوب المغرب حيث الصحراء الواسعة الشامخة، ما تزال أسماء المواطن وبعض الآثار شاهدة على طابعها الأمازيغي القديم.
واقرأ كلام ابن خلدون عن المرابطين أبناء صنهاجة في كتاب ’’العبر ومبتدأ الخبر…‘‘، الذين أسّسوا دولة مكتملة الأركان في المغرب الأقصى، وشيدوا مراكش واتخذوها حاضرة ملكهم، حيث قال فيهم:
’’هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثمون، الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب، أبعدوا في المجالات هناك منذ دهور قبل الفتح لا يُعْرف أولها، فأصحروا عن الأرياف ووجدوا بها المراد وهجروا التلول وجفوها، واعتاضوا منها بألبان الأنعام ولحومها انتباذا عن العمران، واستئناسا بالانفراد وتوحشا بالعز عن الغلبة والقهر، فنزلوا من ريف الحبشة جوارا، وصاروا ما بين البربر وبلاد السودان حجزا، واتخذوا اللثام خطاما تميزوا بشعاره بين الأمم، وعفوا في تلك البلاد وكثروا، وتعددت قبائلهم من جدالة، فلمتونة، فمسوفة، فوتريكة، فتاوكا، فزغاوة، ثم لمطة، إخوة صنهاجة كلهم ما بين البحر المحيط بالمغرب إلى غدامس من قبلة طرابلس وبرقة‘‘.
وعن أصل المرابطين، يقول ابن خلدون في نفس الكتاب، إنهم أبناء صنهاجة، وصنهاجة هي من بطون ’’البرانس‘‘ وهي من أوفر قبائل البربر، وإنهم ’’من ولد صنهاج وهو صناك بالصاد المشمة بالزاي، والكاف القريبة من الجيم، إلا أن العرب عرّبته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج، وهو عند نسابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن بر …‘‘
ذلك كلام ابن خلدون، وتلك أسماء القبائل والمواطن التي ما تزال محفوظة على الأرض وفي مستودعات الذاكرة الجماعية التاريخة في الصحراء وما يعرف اليوم بموريطانيا.
وقد كانت الصحراء الجنوبية تابعة للمجال الترابي لدولة المغرب الأقصى، منذ ذلك الحين، أي منذ عهد المرابطين، مرورا بالموحدين أبناء مصمودة، والمرينيين أبناء زناتة، وصولا إلى عهد الأشراف السعديين، الذين تحدث عنهم مؤرخ الدولة آنذاك، عبد العزيز الفشتالي، في كتابه ’’مناهل الصفا…‘‘ واصفا حدود دولة المغرب الأقصى في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي قائلا: ’’فكلمة المنصور نافذة فيما بين بلاد النوبة إلى البحر المحيط من ناحية المغرب، وهذا ملك ضخم وسلطان فخم لم يكن لما قبله‘‘.
وكانت تلك التبعية تتراوح بين الخضوع المباشر للسلطة المركزية المستقرة في مراكش أو فاس، عندما تستقيم شؤون المركز وموارده، أو التبعية الإسمية والروحية عندما كان يضعف نفوذ المركز لصالح نفوذ الرؤساء المحليين، أي أنها كانت تتلون بطابع الظروف السياسية والاقتصادية للدولة وحسب موازين القوى.
وفي عهد الأشراف العلويين، كان الهاجس المهيمن، يتمثل في توحيد أرض المغرب الأقصى بعدما تفككت سلطته المركزية عند نهاية حكم السعديين. وقد تحقق ذلك في عهد السلطان القوي المولى إسماعيل، ووصف اليفرني الإنجازات الترابية في كتاب ’’النزهة‘‘، قائلا: ’’لم يزل أمير المؤمنين إسماعيل رحمه الله في مقارعة أعدائه إلى أن دوّخ بلاد المغرب كلها واستولى على سهلها ووعرها، واستولى على تخوم السودان … وانتشرت دولته في عمائرها … وامتدت مملكته في جهة الشرق إلى بسكرة من بلاد الجريد ونواحي تلمسان، والله أعلم حيث يجعل رسالاته‘‘. وحتى في أحلك فترات الدولة، كان ثمة حرص على تعيين العمال بظهائر في المناطق الصحراوية النائية أو إسناد أمورها إلى أهلها المحليين، وذلك مثلما حدث في عهد السلطان سليمان، عندما اشتكى أهل توات جور العمال والولاة، فعزلهم جميعا، وأسند أمورهم إلى شيوخهم يتولون بأنفسهم اختيارهم. وقد راجع السلطان الحسن الأول سياسة سلفه المولى سليمان فأعاد العمل بالتقليد القائم على تعيين عمال بظهائر في منطقتي توات والساورة.
وللتذكير، فإن منطقتيْ توات والساورة، ألحقتا بالجزائر من طرف الاحتلال الفرنسي بالرغم من أنهما كانتا ضمن تراب دولة المغرب الأقصى منذ عهد السعديين. واستمرت سياسة فرنسا على هذا النحو لمدة عقود بهدف توسيع المجال الترابي للجزائر الفرنسية، وكان آخر إجراء قامت به في منطقة الصحراء المغربية هو ضم منطقة تندوف وإنزال العلم المغربي وإحلال العلم الفرنسي مكانه في مكتب حاكمها الفرنسي سنة 1949.
واعلم أيها القارئ العزيز، أن عددا كبيرا من سكان الأقاليم الصحرواية المغربية الجنوبية هم من بني حسان، ومن اسمهم تم تعيين اللهجة الحسانية، وبنو حسان هؤلاء بطن من بطون بني معقل المنتشرين في درعة وتافيلالت وغيرهما من المناطق المغربية، وقد رتب ابن خلدون بني معقل ضمن الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة، وقال إن دخولهم إلى المغرب كان مع الهلاليين في عدد قليل، وإن مواطن ذوي حسان كانت ’’من درعـة إلى البحر المحيط، وينـزل شيوخهم قاعدة السوس…‘‘، وقد تعايش بنو معقل مع قبائل المغرب في سرائها وضرائها، وشاركوها في جهادها ضد كل محتل، وشاركوها أيام عزها وضعفها، ويروي الشيخ الناصري، صاحب كتاب ’’الاستقصا‘‘ وغيره من المؤرخين، أن السلطان المريني أبي الحسن كان قد أقطع عرب بني معقل أجزاء واسعة من منطقة سجلماسة، وأن جيش الوداية في عهد السلطان إسماعيل العلوي كان يتكون من ثلاث فئات أساسية، من ضمنها فئة كانت تتألف من ’’أولاد جرار، وأولاد مطاع، وزرارة، والشبانات، وكلهم من عرب معقل‘‘، وأنهم كانوا فيما مضى جندا للسعديين، وكان ’’ملوكهم يستنفرونهم للغزو بحللهم لاعتيادهم ذلك أيام كونهم بالصحراء…‘‘.
هذا، وإذا كان خصوم الوحدة الترابية المغربية قد تعوّدوا مهاجمة كل من يقول بمغربية الصحراء ويصنفوه في خانة عملاء ’’المخزن‘‘، حتى أضحى ذلك أسلوبهم وديْدنهم، فإني لا أعتقد أنهم سيسلكون نفس الاتجاه أمام مقالات ابن خلدون وغيره من المؤرخين. ولو شاء الله وأعاد هؤلاء إلى الحياة لتعجبوا من صنيع بعض إخواننا كيف أصبحوا يساهمون في تقطيع أوصال هذه الأمة وتقزيمها واستنزافها بصراع مفتعل يخدم مصالح الدول الكبرى الطامعة في ثروات بلاد المغرب والرامية إلى إبقاء المشهد على ما هو عليه بهدف التحكم في مصيرنا واستقلالية قرارنا واستنزاف طاقاتنا.
* * * *
على أية حال، فإن الحرص على ربط الصلات بالأقاليم الجنوبية ظل متواصلا حتى عندما كان المغرب مقيدا ببنود معاهدة الحماية الاستعمارية. وما قام به الملك الراحل الحسن الثاني بتوجيه المسيرة الخضراء سنة 1975، إنما هو حلقة في مسار دولة المغرب الأقصى التاريخية، واستكمال لعمليات جيش التحرير منذ نونبر 1957 والتي انتهت بتحرير سيدي إيفني وطنطان والسمارة وأوسرد وأسفرت عن المفاوضات المغربية الإسبانية التي بموجبها استرجع المغرب مدينة طرفاية سنة 1958. ولم يكن الملك الحسن الثاني أن يقبل بأن يكون متفرجا على مشهد يرى فيه إسبانيا في عهد الجنرال فرانكو وهي تريد إجراء استفتاء في الصحراء المغربية بهدف إحداث كيان تابع لها يتمتع بنوع من الحكم الذاتي ويشارك في عزل المغرب عن امتداده الطبيعي ومحاصرته داخل حدوده .. وبالتالي حدث ما حدث، واتحد المغرب ملكا وشعبا حول قضية الوحدة الترابية وانتهى الأمر باسترجاع جزء عزيزٍ من تراب الدولة.
إن ما ادعته إسبانيا بشأن احتلالها للأقاليم الصحراوية في أواخر القرن التاسع عشر من أنها كانت أرضا خلاء غير تابعة لأي دولة، كان ادعاء باطلا، وما بُني على باطل يظل باطلا، وقد فنّدت محكمة العدل الدولية هذا الادعاء في رأيها الصادر في 16 أكتوبر 1975 قالت فيه: ’’الصحراء لم تكن أرضا سائبة، هناك علاقات بيعة من بعض القبائل لسلطان المغرب‘‘.
وإن القسمة التي يرومها خصوم وحدتنا الترابية بفصل الصحراء الجنوبية الغربية عن أهلها ومتنفسها وامتدادها في جهة الشمال حيث سوس ودرعة وتافيلالت، إنما هي قسمةٌ ضيزى، وتقطيعٌ للأوصال، واعتداءٌ على التاريخ والاجتماع.
* * * *
إن الدولة المغربية ظلت مستمرة في الزمان والمكان منذ عهد المرابطين، ولم يؤثر ذهاب سلطة وقيام أخرى على استمراريتها، لأن اللاحق كان على الدوام متصلا بالسابق، مقتبسا منه، محافظا على مكتسباته، سائرا على تراتيبه الإدارية والتنظيمية ومضيفا عليها عند الاقتضاء ما يتماشى مع ظروف عصره. ولم يكن انتقال السلطة من بيت إلى آخر مُحدثا لقطيعة ثقافية أو اجتماعية، لأن المبادئ العامة التي تأسست عليها حضارة مجتمع المغرب الأقصى كانت بمثابة العقد الجامع لكل مكونات هذا المجتمع ومن معينها كانت تستمد كل جماعة متطلعة إلى السلطة شرعيتها وشروط بيعتها .. لذلك، لا عجب أن نسمع كلاما عن المغرب وهو في أحلك الظروف ككلام المقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي قائلا: ’’لقد وجدنا هنا حقا دولة وشعبا. صحيح أن البلاد كانت تجتاز أزمة مقترنة بحالة فوضى، لكنها أزمة حديثة العهد نسبيا وهي تهم الحكومة أكثر مما تهم المجتمع‘‘.
إن المتتبع لتاريخ دولة المغرب الأقصى، سينجلي أمامه خيط رفيع يربط أولية الدولة المغربية بحاضرها. وهو خيط قلما تجده في ماضي الدول التي مرت عبر التاريخ إلا إذا تعايشت مكوناتها لمدة طويلة من الزمن فتكونت بينها قيم ومبادئ مشتركة وبلغت درجة عالية من الانصهار.
* * * *
لا أريد أن أختم هذا المقال دون توجيه رسالتين.
الرسالة الأولى، إلى إخواننا الجزائريين، و لاسيما إلى الذين يقفون ضد وحدتنا الترابية. أقول لهم، إن إمعانكم في إطالة عمر الأزمة ووصفكم للمغرب بالبلد المحتل، أمرٌ خطيرٌ ومؤثر يحز في قلوبنا. وإنكم بموقفكم هذا تتنكرون لتاريخ بلاد المغرب الكبير، لتاريخ بني حفص في تونس، وتاريخ بني عبد الواد في الجزائر، وتاريخ المغرب الأقصى، والنضال المشترك الذي خضناه جنبا إلى جنب منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر في القرن التاسع عشر. كما أنكم تتنكرون لمبادئ الوحدة العربية والاستقلال التي تنادون بها في المحافل الدولية، إذ إنكم تساهمون من حيث لا تدرون بتقديم المنطقة المغاربية لقمة صائغة للقوى الدولية الطامعة، وتكرسون من حيث لا تشعرون تقسيمات الاحتلال الفرنسي ومخططات ’’سايكس بيكو‘‘ جديدة في منطقتنا، وتعرقلون اتحاد دولها وتنمية شعوبها بشعارات كبيرة تدعو عبثا وباطلا إلى ما يسمى بــ ’’الحق في تقرير المصير’’ و ’’تصفية الاستعمار‘‘ .. لذلك، ندعوكم إلى وقفة مع الضمير، ومع المصالح العامة لأمتنا، والنظر إلى ما يجمعنا ويقوينا، وترك كل ما يقسمنا ويضعفنا .. وأمامكم وأمامنا عبرة الأندلس وآخر قلاعها في غرناطة، وكيف سقطت وهان أهلها لما تخلى عنها بنو مرين وبنو زيان وبنو الأحمر وانشغلوا ببعضهم البعض .. المغرب عمقكم الاستراتجي، وأنتم كذلك بالنسبة إليه .. فاعتبروا يا أولي الألباب.
أما الرسالة الثانية، فهي موجهة إلى أهلنا في المغرب، من طنجة إلى الكويرة، فيها دعوةٌ إلى تقوية الجبهة الداخلية لأمتنا، وتأكيدٌ على السير في المسار الديمقراطي الذي به سيقوى عودنا وسيصلح أمرنا وسيزداد شغف أفئدتنا بهذا الوطن العظيم، وأن لا نحيد عن المسار الديمقراطي التشاركي تحت أي داعٍ أو عذرٍ أو ظرف. ثم في الختام، أتوجه إلى بعض المواطنين المغاربة الذين يندفعون أحيانا في حماستهم، بأن لا ينجروا إلى مستنقع القذف والسب وتبادل الشتائم، فقضيتنا قضية تاريخية كبيرة ونبيلة لا رجعة فيها، ووسائلنا بشأنها يجب أن تكون على مقاس كبرها ونبلها، و‘‘على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ .. وتأتي على قدر الكرام المكارمُ‘‘، والذين خاصمونا من سكان الصحراء وحادوا عن مسارنا، يظلون أهلنا وإخواننا، وواجب علينا أن نحتضنهم ونسعى إلى إقناعهم بالكلام الطيب، والوطن كما قال عنه الملك الراحل الحسن الثاني ’’غفور رحيم‘‘، ﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، صدق الله العظيم.