الفهرس

’’دعا تضاعف الأجناد إلى تضاعف العطاء، و تضاعف العطاء إلى تضاعف الخراج، وتضاعف الخراج إلى الإجحاف بالرعية…‘‘ مقتطف من رسالة السلطان زيدان السعدي.

شكلت مسألة التمويل أحد أبرز القضايا التي أرّقت السلاطين المتعاقبين على حكم الدولة المغربية من عهد المرابطين إلى عهد العلويين. فموارد الدولة في البداية كانت تعتمد على مجموعة من المصادر: الخراج، والزكاة، والجزية، والعشر، والمكوس، والأوقاف، أضيفَ إليها في عهد المرينيين ’’فائدُ دار السكة‘‘.

   لكن بعض هذه الموارد تراجع أداؤه مع مرور الزمن، وبعضها لم تعد الظروف تسمح باستمراريته؛ فلما جاء عهد السعديين، كانت الأمور المالية في أواخر القرن السادس عشر للميلاد قد تغيرت، فأراد السلطان أحمد المنصور أن يتبنى سياسة تقتضي توفير موارد مستقلة لتمويل نفقات الجيش وأجهزة الدولة، فاعتمد بالخصوص على الذهب الوارد من مناجم السودان وعلى الموارد المتأتية من عمليات تصدير السكر المنتج محليا، بالإضافة إلى بعض الاحتكارات والضرائب المفروضة في الموانئ.

   وباتباع هذه السياسة، استطاعت السلطة السياسية تقليص اعتمادها على الجبايات، وبالتالي الحفاظ على استقرار العلاقات بين السلطة من جهة، والزوايا والقيادات المحلية من جهة أخرى.

   لكن هذه الموارد تراجعت تراجعا كبيرا عندما أخذت السلطة المركزية تتفكك بعد وفاة المنصور، فاضطر ابنه زيدان إلى توسيع الجبايات وفرض الخراج بقيمة سعر الوقت، فأثار حفيظة عدد من الزوايا الذين نقموا عليه ظلم الجباة؛ وقد نقل المؤرخون رسالة السلطان زيدان إلى يحيى بن عبد الله، وهي تعكس بوضوح إحدى أخطر الإشكاليات التي فرضت نفسها بقوة في ذلك العصر، ألا وهي إشكالية تمويل خزينة الدولة وتغير الأسعار، والتي ورثها العلويون من بعد السعديين، كما أنها تعكس علاقة السلطة بالمجتمع وكيفية نظرتها إليه في ذلك الحين.

رسالة السلطان زيدان:

   (( واعلم أن السلطنة لها أشراط لا بد منها، وسياسة ينكر ظاهرها. ولكن نرجع إلى غرضك ومرادك. أخبرنا، كيف تحب أن نسلك مع الناس في الغرب؟ فإن كنت تحب أن نسلك فيهم مسلك مولاي عبد الله، فالزمان غير الزمان. والأسعار قد طلعت وبلغت النهاية. والله تبارك وتعالى قد بعث أنبياءه وأنزل كتبه بحسب ما يقتضيه الزمان. وهذا يعرفه من خالط الشرائع والكتب المنزلة، وأخذ العلم من أفواه الرجال، وأدبته مجالس العلم. ونحن نلخص لكم الكلام على بعض ما أورده الناس في الخراج. أما ما بنوا عليه فرضه في صدر  الإسلام والدول العظام، فلا نطيل بذكره لشهرته. وأما في المغرب  خصوصا، فأول من فرضه عبد المؤمن بن علي وجعله على إقطاع الأرض، بناء على أن المغرب فتح عنوة، وإليه ذهب بعض العلماء، ومنهم من يقول إن السهل فتح عنوة، والجبل صلحا. فإذا تقرر هذا وعلمت أن أهل هذا العصر قد بادوا واندثروا، فيكون السهل كله إرثا لبيت المال. وتعين أن يكون الخراج فيه على ما يرضي صاحب الأرض، وهو السلطان، والجبل تتعذر معرفة ما كان الصلح عليه، ولا سبيل إلى الوقوف عليه، فيرجع للاجتهاد. وقد اجتهد سلفنا الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ في فرضه لأول الدولة الشريفة، على حسب وفق أئمة السنة ومشايخ أهل العلم والدين في ذلك العهد. فجرى الأمر على السنن القويم، إلى أن عواصف الفتنة لأيام ابن عمنا صاحب الجبل، وإدالة مولانا الإمام وصنوه المرحوم على حواضر المغرب وسهله عند الزحف بالأتراك. وامتدت به الفتنة في الجبل، إلى أن هلك مع النصارى دمرهم الله في الغزوة الشهيرة، وجاء الله بمولانا المقدس بالجبل العاصم للإسلام من طوفان الأهوال، فقدّر، رضي الله عنه، الأشياء حق قدرها، ورأى المغرب، غب تلك الفتن، قد فغر أفواهه لالتهامه عدوان عظيمان، من الترك، وعدو الدين الطاغية. فاضطر رحمه الله إلى الاستكثار من الأجناد لمقاومة الأعداء، والذب عن الدين، وحماية ثغور الإسلام. فدعا تضاعف الأجناد إلى تضاعف العطاء، وتضاعف العطاء إلى تضاعف الخراج، وتضاعف الخراج إلى الإجحاف بالرعية. و الإجحاف بالرعية أمر يستنكف رضي الله عنه من ارتكابه، ولا يرضاه في سيرة عدله طول أيامه. فلم يبق له حينئذ إلا أن أمعن النظر، رحمه الله، في أصل الخراج. فوجد بين السعر الذي بني عليه في قيمة الزرع والسمن والكبش الذي تعطي الرعية عند زمن الفرض وبين سعر الوقت أضعافا، فحينئذ تحرى رحمه الله العدل، فخير الرعية بين دفع كل شيء بوجهه، أو دفع ما يساوي بسعر الوقت. فاختاروا السعر مخافة أن يطلع إلى ما هو أكثر، فأسعفهم إليه رضي الله عنه. وعرف الناس الحق فلم ينكره أحد من أهل الدين ولا من أهل السياسة. ليت شعري، لو طالبنا نحن الرعية اليوم بسعر الوقت الذي طلع إلى أضعاف مضاعفة، ماذا تقولون وقد انتقدتم علينا ما هو أخف من ذلك؟ والحاصل، راجعوا ـ رضي الله عنكم ـ ما عند الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية في ضرب الخراج، فقد استوفى الكلام في ذلك)).

ــــــــــــــــــــ

المصدر: محمّد الصغير الإفراني، “نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي”، تحقيق عبد اللطيف الشادلي، الطبعة الأولى، 1998، ص. 322 إلى 324.

ــــــــــــــ

X