إننا نتكلم اللغة العربية، ونقرأها، ونستعملها في كتاباتنا، على مدار اليوم، لكن الكثيرين لا يعرفون أصلها، وشجرتها السامية، ومتى نشأت. في هذا المقال سنحاول بإيجاز التطرق لهذه المواضيع بغية توضيحها.

إن اللغة العربية هي إحدى اللغات الساميّة التي تنقسم إلى فئتين:

– الفئة الشمالية، تشمل ثلاثة فروع، وهي: 1-الأرامية بلهجاتها الكلدانية والسريانية …إلخ 2-الأشورية 3-الكنعانية بلهجاتها العبرانية والفينيقية …إلخ.

– الفئة الجنوبية، تشمل فرعين، وهما: 1- الإسماعيلية أو العربية المضريّة، وتسمى كذلك ’’العدنانيّة‘‘ 2- اليقطانية أو القحطانية، وهي تشمل لهجات جنوبي جزيرة العرب، وبلاد الحبشة.

بقيت اللغة العربية أقرب اللغات الساميّة إلى الأصل، وإن كانت أحدثها نشأة وتاريخا (500 ب.م)، إلا أن أوائلها لا تزال مطوية في مجاهل التاريخ، وجلّ ما نعرفه أن هناك لغتيْن تفرعت عنهما سائر اللهجات العربية، هما لغة الجنوب أو اللغة الحِمْيرية، ولغة الشمال أو اللغة المضريّة.

وقد كانت لغة اليمن القحطانية (لغة الجنوب) تختلف عن لغة الحجاز العدنانية (لغة الشمال) في الأوضاع والتصاريف وأحوال الاشتقاق، حتى قال أبو عمرو بن العلاء (المتوفى سنة 770م): (ليست لغة حِمْير بلغتنا ولا عربيّتهم بعربيتنا).

وذهب بعض العلماء إلى أن لغة الجنوب القحطانية كانت أصلا من أصول العدنانيّة، واعتمدوا في قولهم هذا على النقوش اليمنية المكتشفة حديثا، فقد وجدوا فيها عبارات تتّفق والعربيّة المضريّة لفظا وتركيبا. ففي أقدم النقوش مئات من الكلمات مشتركة بين اللغتين، وبعضها مطابق في رسمه ومعناه لما في العربيّة مثل: أخ، أخت، وثن، شِبل، أسد، شهر…

وقد خطت اللغة المضريّة الحجازية خطوات حتى وصلت إلى الحالة التي رأينا صورتها في الأدب العربي الجاهلي وفي القرآن.

فالقحطانيّون اختلطوا بالعدنانيّين اختلاطا شديدا، وتقاربت اللغتان الحِمْيرية والمُضريّة للتفاهم، واشتدّ التفاعل والتطوّر مدة خمسة قرون تقريبا. وقد تغلّبت المضريّة العدنانيّة أخيرا على الحميريّة القحطانيّة لانهيار دولة الجنوب، ولكن المضريّة خرجت من ذلك أكثر اتساعا، وأكثر انفتاحا على الحضارة وأسبابها.

وكان للعرب لهجات قبلية مختلفة، تنطق بها كل قبيلة ولا يعسر فهمها على سائر القبائل. لكن، إلى جانب هذه اللهجات تكوّنت لغة مثالية خالية من العيوب والهنوات، هي لغة المجتمعات الأدبية، ولغة الشعر والخطابة، فبرزت أحسن بروز في القرآن وفي ما وصل إلينا من أدب الجاهلية الرفيع.

وقد طغت على تلك اللغة المثالية لهجة قريش، وكانت أقل اللهجات عيوبا وهنوات وأفصحها بيانا.

وكانت مكّة محطا للقوافل من عهدٍ عهيد، وكانت موطن قريْش، كما كانت مقام الكعبة يفد إليها الحُجّاج من جميع الآفاق. فكان لقريش نصيب وافر في توحيد اللغة، تهذّب لهجتها بما تأخذه من لغات القبائل الوافدة على بلادها، مّا خفّ على اللسان وعذُب في السمع، وكان العرب يقلّدون لسانها، والشعراء والخطباء يؤثرون ما هو من ذلك اللسان، وكان الشعر ينتشر من تلك الأصقاع في جميع نواحي البلاد حاملا إليها لهجة قريش وأسلوبها.

وسببٌ آخر ساهم في تكوين اللغة المثالية الأدبيّة، تمثّل في الأسواق. وهي أمكنة في أنحاء الجزيرة كان العرب يختلفون إليها في أوقات معيّنة لشؤون تجاريّة وقضائية وأدبية ونسبية وغيرها. فكانت تلك الأسواق أشبه بمعارض عامة يَفِد إليها الناس من مختلف أنحاء الجزيرة، ومن أشهرها سوق عكاظ قرب مكّة، ومجنة وذو المجاز وكلاهما في ضواحي مكة. وعلى العموم كانت أهمّ الأسواق في قريش والمحكّمين فيها منهم أحيانا كثيرة.

وكان الأشراف والزعماء يجتمعون في تلك الأسواق للمتاجرة والمنافرة ومفاداة الأسرى والتحكيم في الخصومات وأداء الحجّ. وكان الكلام فيها بلغة يفهمها الجميع، يتوخى الشاعر أو الخطيب الألفاظ العامة والأساليب العالية في لغة مثالية موحدة تروق كل سامع.

وإلى جانب الإضافة التي أثْرت بها اللغةُ القحطانية اللغةَ المضرية، ثمّة روافد أخرى تمثّلت في حضارات الجوار المتاخمة كحضارة مصر وفارس والروم والحبشة التي استفادت منها لغة عدنان عن طريق التجارة أو طريق التنافس بين الحيرة وغسّان، والفرسُ والرومُ من ورائهما.

وهكذا وصلت اللغة العربية إلى العصر الجاهلي، راقية، مزوّدة بمحاسن لغات عديدة وحضارات كثيرة، تستطيع التعبير عن كلّ شيء مهما دقّ وسما، وتستطيع الإفصاح عن حاجات النفوس ولواعج الصدور، وتصوير المناظر والخواطر، وما إن ظهر فيها القرآن حتى ثبّتها وعمل على حفظها بالرُّغم من تقلبات الأيام وأحداث الزمان.

وعن اللغة العربية، قال المستشرق الكبير بروكلمن: ((تمتاز لغة الشعر العربيّ بثروة واسعة في الصوَر والنحو [الإعراب]، وتُعَدُّ أرقى اللغات الساميّة تطوُّراً من حيث تركيبات الجمل ودقة التعبير، أما المفردات فهي غنيَةٌ غنى يسترعي الانتباه، ولا بدع فهي نهر تصبّ فيه الجداول من شتى القبائل)).

(المصدر: حنا الفاخوري، ’’تاريخ الأدب العربي‘‘، الطبعة الثانية عشرة)

 

انضموا إلى قناة الفهرس في تلغرام للكاتب سعيد منصفي التمسماني
X